الأدب الجنائزي الفرعوني في “كتاب الموتى”

0 747
 
بقلم/ ملك عبدالله سمرة – باحثة أثرية
منذ بداية التاريخ سعى الإنسان إلى الوصول إلى إجابات عن أسئلة فطرية بشأن الطبيعة والبعث والخلود. فقد عرف المصريون القدماء ما يُسمى بـ”كتاب الموتى”، وهو أقدم كتاب يحتوي على وثائق دينية، ونصوص، وآداب جنائزية، وتعاويذ، وإرشادات. وقد ظهرت فصوله ابتداءً من عصر الدولة المصرية الحديثة حتى سقوط الأسرة الــسادسة والعشرين، ولا تزال نسخة منه محفوظة في المتحف البريطاني.

 هذه التعاويذ كانت تُسمى بنصوص الأهرام في عصر الدولة القديمة، وكانت تُنقش على جدران المقابر العادية والأهرامات، أو على التابوت الحجري، أو الخشبي، وتوضع إلى جانب المومياء لتكون دليلاً للميت في رحلته للعالم الآخر، حيث كانت هذه التعاويذ بمثابة تعليمات إرشادية تُمكن المتوفى من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادفه في أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى، وتدله أيضًا على الوسائل التي يستخدمها ليتمم هذه الرحلة بنجاح من دون أن يتعرض لأي سوء. وفي الوقت نفسه تذكره بأسماء الآلهة التي سوف يصادفهم في طريقه، إذ أن نسيان اسم أحد الآلهة لا يكون في صالحه، خصوصا وأنه عندما سيُحاسب في الآخرة سيقف أمام محكمة مكونة من 40 إله.

 

في عصر الدولة الوسطى والحديثة، بدأ كتابة نصوص “كتاب الموتى” على ورق البردي، ووُضع هذا الكتاب بجوار المومياء داخل التابوت، وكان كل مصري قديم ذو شأن حريصًا على تكليف الكهنة بتجهيز “كتاب للموتى” له يذكر فيه اسمه، واسم أبوه، واسم أمه، ووظيفته في الدنيا، وذلك استعدادًا ليوم وفاته وتجهيز طقوس نقله إلى مقبرته.

 

أُطلق على النصوص في البداية اسم “إنجيل المصريين”، أما الاسم الشائع لها حالياً، فهو “كتاب الموتى”، وهو من ابتكار لبسيوس، فيما سماه قدماء المصريين “برت أم هرو”، أي “الخروج في النهار”، وكُتبت النصوص بالخط الهيروغليفي البسيط والهيراطيقي لتگون دليل للميت في رحلته للعالم الآخر، ويتضمن الكتاب نحو 200 ترنيمة للآلهة كُتبت على ورق البردي، وتعاويذ سحرية كانت تُنقش على جدران المقابر، أو على التوابيت. وقد حرص المصريون القدماء على تكليف كهنة التحنيط والدفن إعداد “كتاب الموتى” الخاص بهم، بحيث يُذكر فيه اسم الشخص واسم والده ووالدته ووظيفته في الدنيا، وذلك استعداداً ليوم وفاته وإعداد طقوس نقله إلى مقبرته.

لم يكن مُتاحاً لكل المصريين الحصول على هذا الكتاب بسبب تكلفته العالية، ولذلك اختصت به طبقة معينة من النبلاء والموظفين وخُدّام الآلهة في المعبد. وتضم النصوص تعاويذ وتمائم وأناشيد وطقوساً ودعوات، كما تضم السيرة الذاتية للمتوفَّى والرسائل المرسلة إليه من ذويه. وكان الهدف هو ألّا يشعر بالغربة والعزلة، وأن يتمكّن من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه أثناء رحلته الأبدية، فتدله على الوسائل التي يتعين عليه إتباعها ليتم رحلته بنجاح.

 

وقد أظهرت برديات “كتاب الموتى” أو “الخروج إلى النهار”، أن قدماء المصريين قد آمنوا بالبعث والحياة بعد الموت، وكذلك الثواب والعقاب، والجنة والجحيم، وورد هذا بالتفصيل في بردية “حونفر”. كما صوّر الكتاب المخلوقات المُخيفة التي تتولّى تعذيب الميت ومحاسبته ووزن قلبه في المحاكمة أمام مجلس الإله أوزوريس، وهي اللحظة الحاسمة في يوم الحساب. ففي حال اجتيازه بنجاح، يصبح الميت واحداً من الأموات المباركين، والقلب هنا هو رمز لذكاء الميت وعواطفه وعقله، وهو المكان الذي يحوي جوهر أعماله.

 

وقد قدّس المصريون القدماء القلب، وحرصوا عليه، ففي أثناء عملية الدفن، كانوا يفرغون الجسد من كل الأعضاء، حتى الدماغ، إذ لم يعن لهم شيئاً، باستثناء القلب. فقد عملوا على حمايته باستخدام وصايا منقوشة على خنفساء، التي تُعد عندهم رمزاً للشمس، وتوضع على قلب الميت عند دفنه: “لم أكذب، لم أسرق” لم أغش، وقلبي طيب وبريء، وحالما يجتاز الميت اختبار القلب يؤذَن له بالدخول إلى الفردوس، إلى حقل الأيارو المبارك.

 

يبيّن لنا “كتاب الموتى” لدى قدماء المصريين العقائد الدينية التي كانت تشغلهم طوال حياتهم. فقد كانوا ينظرون إلى الموت بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الحياة ومكملاً لها، فيستعدون للموت كما يتعيّن عليهم ليعبروا نحو الحياة الأبدية، حيث لا أمراض ولا تعب ولا شيخوخة، بل ويكون رفيقاً للآلهة، يأكل ويشرب معها في بعض المناسبات. وهدف الميت أو الموت هو الوصول إلى الحياة الأبدية في العالم الآخر، وتصور المعيشة في الآخرة هو أن الميت الذي فعل صالحاً في حياته وكان أميناً وصادقاً يساعد الفقير والعطشان، ويساعد الأرامل واليتامى، كان مثل هذا الإنسان يعيش طبقاً لما أرادته له الآلهة من “حياة سوية، ونظام، وعدل”.

كان يُرمز لهذا النظام المصري القديم بـ”ماعت”، آلهة الحق والنظام الكوني. وكتاب الموتى يحتوي على عدة فصول تشير إلى: وقاية الميت من الشياطين والأرواح الشريرة والثعابين وغيرها، وتُعرف الميت عند البعث الطريق إلى الآخرة، وتساعده على عبور بحر النار، والصعاب التي تهدده، وتسمح له بالتردد بين العالم الأرضي والعالم الآخر، وتساعده على الحياة في الآخرة، وتساعده في الحصول على الماء والغذاء، وتلقي الهبات والأضحية وعطائها في العالم الآخر، وتساعده على معرفة الأماكن في الآخرة، وتذكر أسماء الآلهة والأسماء المهمة (مثل اسم باب الآخرة)، وتساعده على معرفة الأبواب وأسمائها وتعاويذ فتحها والمرور منها، والوصول إلى الآلهة وتعريف نفسه إليهم.

 

ورغم وجود بعض الاختلافات بين معتقداتنا في الوقت الحالي عن الحياة الآخرة، ولكن توجد تشابهات بين معتقداتنا ومعتقدات المصري القديم. فكانوا قدماء المصريين يعتقدون في البعث والمثول أمام هيئة قضائية مشكلة من 42 قاضياً، ويعترف أمامها الميت بأنه لم يسرق، ولم يغتال أحد، ولم يكذب، ولم .. ولم، وكل ما لم يكن يفعله من سيئات في حياته في الدنيا، لم أتسبب في أذية إنسان، ولم أُرغم أحداً من أقاربي على فعل السيئات، ولم أناصر العمل السيئ على العمل الطيب، ولم أمشي مع المعتدي.

 

من الأجزاء الأساسية في “كتاب الموتى” دعاء يدافع به الميت عن نفسه، ويُسمى “الاعتراف بالنفي” (السلام عليك أيها الإله الأعظم .. إله الحق، لقد جئتك يا إلهي خاضعاً لأشهد جلالك، جئتك يا إلهي مُتحلياً بالحق، مُتخلياً عن الباطل، فلم أظلم أحداً، ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين، ولم تضلني الشهوة، فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي، ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أقل كذباً، ولم أكن لك عصياً، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده”. إني يا إلهي لم أجُع، ولم أبك أحداً، وما قتلت، وما غدرت، بل وما كنت محرضاً على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها، ولم أرتكب الفحشاء، ولم أُدنّس شيئاً مقدساً، ولم أغتصب مالاً حراماً، ولم أنتهك حرمة الأموات. إني لم أبع قمحاً بثمن فاحش، ولم أطفف الكيل، أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر، وما دمت بريئاً من الإثم، فاجعلني يا إلهي من الفائزين،  لم أحرم الماشية من عشبها، ولم أصنع الفخاخ لعصافير الإله، ولم أصطاد السمك من بحيراتهم، ولم أمنع المياه في موسمها، ولم أقم سداً أو عائقاً أمام الماء الجاري، ولم أطفئ نار متأججة).

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق