حسين السيد يعرض: “النيل حياة نهر”

0 1٬016

قراءة وعرض/ حسين السيد

كتاب “النيل حياة نهر” تأليف: إميل لودفيج وترجمه: عادل زعيتر. يُعد هذا الكتاب من أهم إصدارات مكتبة الأسرة في تسعينيات القرن الماضي. كتاب ضخم يجمع بين دفتيه معارف كثيرة: الأدب، والتاريخ، والاجتماع، والجغرافيا، وعلوم الحيوان، وتاريخ الأديان. لهذا لا تمل من قراءته، كأنه نسج على طريقة الجاحظ، من حيث التنوع وعدم الرتابة. إنه موسوعة من المعارف، قضى المؤلف فى جمعه ست سنوات، فقد سجل مشاهداته ومغامراته التى قام بها بين عام1930 و 1934. ترجم للنيل، كما ترجم للعظماء من قبل مثل: بسمارك، وجوتة، ونابليون.

 

يقول لودفيج فى مقدمة الكتاب: “ولاح النيلُ لى كعظماء الرجال فأردتُ أن أستنبط من طبيعته تسلسلَ حوادث حياته المقدَّر فأبنتُ كيف أن الوليد، وهو يتفلَّت من الغابة البِكر، ينمو مصارعا ثم تَفتر همَّته ويكاد يَنْفَد ثم يخرج ظافرا، وكيف أن أخاه القَصِىَّ المقحام يُهرَع إليه ليزلِقا معا من خلال الصحراء ويصاولا الصخر، والنيل فى تمام رُجُولته يقاتل الإنسانَ فيُقهَر ويُروَّض ويوجب سعادةَ الآدميين، ولكن النيلَ قَبْلَ ختام جِرْيته يسبِّب من المآسى أكثرَ مما في شبابه الوحيش”.

 

وقد اخترت من الكتاب بعضًا من روائعه، دلالة على أهمية النيل بالنسبة لنا أو بالنسبة لقدماء المصريين، وأن التفريط فيه يعنى هلاك المصريين، كذلك قرأت نماذج للتدليل على شمولية الكتاب للمعرفة، وقد أنصف المؤلف العرب والمسلمين، فنفى التهمة عن الفاروق عمر بحرق مكتبة الإسكندرية، وبين أسباب انتشار الإسلام بين نصارى مصر، والمقارنة بين الفراعنة والمسلمين.

 

هزيمة الجيش المصرى من الأحباش

خاضت مصر حروبًا عديدة ضد إثيوبيا فى القرن التاسع عشر فى عهد الخديو إسماعيل باشا، وفى كل مرة كانت تخسر الحرب، رغم الأسلحة البدائية للإثيوبيين، مقارنة بالجيش المصرى المنظم، فلماذا خسرت مصر حربها ضد الحبشة؟ من المؤكد أنه ليس لبسالة الإثيوبى، وإلا لانتصر المصريون وهم أكثر بسالة وشجاعة وإقدام من غيرهم، لكن هناك عوامل طبيعية حالت دون انتصار الجيش المصرى، أو كما يقول “إميل لودفيج”: “جَعَلَت الجبال من الحبشىِّ محاربًا، وكان المطر يَقْطَع كلَّ حربٍ منذ ألوف السنين، ولا تُؤتى البغضاء أُكُلَها إلا بين أكتوبر ومايو، ولذَيْنِك العنصرين لم يُغْلَب هؤلاء القوم الذين هم من شباه الهَمَج تجاه أساليب الحروب الحديثة، بل انتصروا فى سنة ١٨٧٠ وسنة ١٨٩٠ على شعبين ذَوَى أسلحةٍ جديدة وطَرَدُوهما من بلادهم: انتصروا على المصريين ثلاث مراتٍ، ثم غَلَبُوا إيطالية”.

 

النيل حضارة

يقول لودفيج: “وفى النيل أسفرت الضرورة عن أول معانى السلطة المركزية والطاعة، والنيل أيضًا هو الذى دفع الكهنة إلى رصد النجوم لحساب وقت الفيضان، والنيل هو الذى أوحى إليهم بفكرة قياس العلوِّ لمعرفة ارتفاع الفيضان. والنيل هو الذى أوجد علم الفلك والرياضيات والحق والقانون والنقد والشرطة مع عدم وجود هذه الأمور لدى أى جماعة بشرية كانت، وهل وُجِد شعب ٌآخر صاحبُ تقويم منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وعارفٌ بدائرة البروج قبل الميلاد بثلاثة آلاف ميلاد؟ النيل هو الذى علَّم المصريين جميع هذه العلوم.

 

نشأ الخط المصرى من عاملين: النيل الذى هو سببُ الإدارة، ورجاء البقاء الذى أسفَرَ عن إيجاد المحاضر، ومن ثمَّ كان أعظمُ الاكتشافات البالغُ القِدَم، والذى يَرْجِع إلى الأُسَر المالكة الثلاث الأولى، وما على الأعمدة والجسور والتماثيل من كتاباتٍ فيَنِمُّ على خُلُق المصرى وصراحته وقناعته ومِزاجه العملى واستعداده للنظام. وقد سهَّل النيلُ جميع الأعمال الذهنية والجماعيَّة، وقد حال النيل دون إقامة مَبَانٍ حيث يكون الحجر، وتَجِدُ المعابدَ منتشرةً فى كل مكان من وادى النيل خلا هنالك. ويُعَلِّمُهم النيلُ الكتابةَ فيتعلَّمون التلوين، وتُرَى على أقدم التماثيل رَوْعَةُ الألوان.

 

تأليف أمة

النيل، منذ الأزمنة القديمة، حَمَلَ الفراعنةَ على تأليف أمةٍ من الفلاحين، لا من المحاربين، والنيل، بدلاً من الجبروت، حَمَلَ الفراعنة على إقامة دولة إقطاعية اكتُشِف فيها العلم والفن لقهر النهر وارتقت فيها إطاعة العبيد إلى مرتبة الأُلْفَة ودرجةِ التعاون. وفى سبيل دراسة النيل يُفَرَّق بين البُرُوج فى عالَم النجوم، وفى سبيل توزيع النيل تقسَّم الأرض إلى قسائمَ تَصغر مقدارًا فمقدارًا، والنيل من ناحيته يقوِّى قابلياتِ هذه الأمة وميلَها إلى التعاون داخلاً وخارجًا. وعلى من يَمْثُل بين يدى أوريرِس وقضاة الموت أن يبرئ نفسه مع اليمين من الكبائر الأربع والأربعين فيقول عن إحداها :”إننى لم ألوِّث ماء النيل ولم أحبِسه عن الجريان فى موسمه ولم أسُدَّ قناةً”.

 

كل من يشرب من النيل فهو مصرى

كان الإله أمون يصِّرح بلسان كهنته قائلا: “إن البلد الذى يفيض فيه النيل هو مصر، فكل من يشرب من النيل فى مجراه التحتانىِّ بعد بِلاق فهو مصرى”. وبلاق هى جزيرة ألفنتين الواقعة جنوب أسوان.

 

انخفاض منسوب المياه يؤدى إلى كوارث

كان الفلاح البسط يسمع ابتهال الكاهن إلى النيل بنشيد بالغ القدم منقول على جُدُر طيبة، وإليكه: “السلام عليك أيها النيل الذى يخرج من الأرض ليُغذِّى مصر، والذى يخرج من الظلمات إلى النور ليُشَاد بوروده، أنت تسقى الحقول، وقد خلقك رَع لتُطعم القطاع، أنت تروِّى حتى الصحراء البعيدة من كل ماء، مادام الطَّلُّ هو الذى ينزل من السماء، وإذا ما كان النيل مِكسالا سُدَّت الأنوف وهزل الناس وزالت القرابين وماتت الملايين، وإذا ما ارتفع النيل كانت الأرض فى سرور وكانت المِعَدُ فى حُبُور، وضحكت الظُّهور وابتسمت الثغور”؟

 

ويقول أيضا: “والنيل هو الذى يُنبِت الشجر ويُنتج السُّفن لتعذُّر صنعها من الحجارة، ومن ذا الذى يجرؤ أن يشبِّهك بالبحر الذى لا يخرج حبًّا أيها النيل الكريم الذى يروِّى المروج ويهب القوة إلى الناس”.

 

ويشتمل “عمُود سِنِى المجاعة السبع” على كتابة من أقدم كتابات مصر، ويحتمل أن هذه الكتابة أقدمُ من الأهرامات، ويئن أحد الفراعنة على هذا العمود بما يأتى: “لم يرتفع النيل منذ سبع سنين، ويُعْوِزُنا الحَبُّ، وقد جفَّت الحقول، وعاد الرجل لا يدفن جاره، وصار الجميع يفِرُّ على ألا يرجع، ويبكى الولد، ويَذوِى الشاب، ويذبُل الشائب، وتزُول قوة سُوقِهم، ويجلسون القُرْفُصاء على الأرض متكتَفِّين”.

 

النبى يوسف ومحافظة الفيوم

وعن سبب تسمية محافظة الفيوم بهذا الاسم، وعن دخول نهر النيل إليها يذكر “إميل لودفيج” أن: “رجال البلاط سئموا منه كما يسأمون من كل وزير يحتفظ بالسلطان زمنًا طويلاً، فودُّوا أن يتخلصوا منه فأخذوا ينتقصونه أمام فرعون ويقولون: “يا فرعون العظيم، لقد شاب يوسف كثيرًا، وقلَّ ذكاؤه وزال جماله وضعف رأيه”، غير أن فرعون، الذى، لم يَنْسَ ما تم على يد يوسفَ من عمل معلِّمٍ، أراد أن يُرِيَهم ما لا يزال عند يوسف من قدرةٍ سحرية عظيمة فقال لهم: “والآن، أَثْبِتُوا لى ذلك، والآن اسألوه أن يقوم بعمل عظيم لا يَقْدِر على إنجازه”، فقال خصومُ يوسف: “مُرْهُ أن يستنزف ماءَ النيل من الأراضى المستغدرة تحت البحيرة، وأن يُجَفِّف هذه الأراضى وأن يَسْقِيَها فيكون لك بذلك ولايةٌ جديدة ودَخْلٌ جديد”. ويُظْهِر فرعونُ إشارةَ القَبول، ويدعو يوسف ويقول له: “يوسفُ! لي ابنةٌ مفضَّلة أريد أن أُحْسن جهازَها، ولكن ليس عندنا أراضٍ، أفتقدِر أن تُحَوِّل البقعة المستغدرة هنالك إلى ولاية؟ هى حسنةُ الموقع، وهي غيرُ بعيدةٍ من عاصمتى، وهى فى وَسَط الصحارى، وستكون ابنتى مستقلةً فيها”.

 

وهنالك يسأل يوسف: “ومتى تريد ذلك يا فرعونُ العظيم؟ فسيكون ذلك بعون الله”.

 

وهنالك يجيب فرعون قائلاً ككل صاحب سلطان: “بما يُمْكِن من السرعة”.

 

وهنالك يأمر الله يوسف بأن يُنْشِئ ثلاث قَنَوات، فتكون إحداها من مصرَ العليا، وتكون الثانية من الشرق، والثالثة من الغرب، فتُسْتَنْزَف الأرضُ بهذه القَنَوات، ويَغْرِسُ يوسفُ فيها أشجارا وألفًا من الأَثْل، ويدخل النيل فى وقت الفيضان إحدى القنوات ويَسقِى البلدَ المجفَّف ويَخْرُج من القناة الأخرى، ويتم كل شىء في سبعين يوما. ويقول فرعون لرجال بَلَاطه حينئذ: “هذا هو الذى عَمِلَه يوسفُ الشائب الضعيف الرأى، وهذا ما لا تقدرون على صنعه فى ألف يوم!” وما فتئ ذلك البلدُ يُسَمَّى بلدَ ألف يوم أو الفيوم !

 

خوفو والغمُّ

ولا يعرف إميل لودفيج الكثير من المعلومات عن بناة الأهرام الثلاثة، فيقول عن خوفو: “كل ما نعلمه عن خُوفُو هو أن الغمَّ كان يستحوذ عليه دَوْمًا فيأتى من منفيس بساحر ليُسَليَه بقِصَصٍ وأحاديثَ، فيَعْرِض هذا الساحر عليه أن يُلْزِقَ رأسًا مقطوعًا ببدنه الذي فُصِلَ عنه”.

 

فرعون صائحا: إيتونى بمحكوم عليه!

 

الساحر: كلا، لا رجلَ، بل حيوانٌ من زِرَابك (حظيرة المواشى)، ويَذبَح إوزَّة ويَقطَع رأسَها ويُعيده إلى حيث كان، وينطلق هذا الطيرُ خافقَ الجناحين.

 

قيصر من حرق مكتبة الإسكندرية وليس الفاروق عمر

ونفى “إميل لودفيج” فى كتابه المزاعم التى زعمها المستشرقون وغرهم من أن عمر بن الخطاب قد أمر بحرق مكتبة الإسكندرية، وإنما الذى حرقها هو “قيصر” سيد روما وسيد العالم، عن طريق حرقه السفن المصرية، فيقول “لودفيج”: “غير أن رئيسًا لمرتزقة الأغارقة يطالب بمكافأة لإنقاذه الملك، ويثور الجمهور، ويُشْعِل قيصرُ السفنَ المصرية التى كانت فى الميناء والتى كان عددها اثنتين وسبعين، فيمتدُّ اللَّهَب إلى المكتبة بفعل الرياح ويَحرقها فيتحول بذلك أربعمائة ألف طُومَارٍ (صحيفة) من ورق البردىِّ إلى رَماد”.

 

دفاع عن الرق والرد عليها

حاول بعض النظريين طويلَ زمنٍ أن يدافعوا عن النِّخاسة، ومما كانوا يُثبِتونه خُلُوُّ العهد الجديد من أى حظرٍ لها، وكون مبدأ مساواة الناس أمام الرب ليس غيرَ “تلطيفٍ” للنص، وما كانت الثورة الفرنسية التى حاولت تطبيق هذا المبدأ فى الحقل السياسى، ولا جهود الأصحاب، لتستطيعَ أن تَقْضِى على النخاسة. وكان لابد، لبلوغ ذلك، من سيادة النظام الآلى الذي يؤدى إلى بطالة كثير من الناس، ونقص قيمة العبيد فى بعض الأصناف على الأقل.

 

ومن براهين البِيض من النصارى أن الإعتاق الفورى يؤدى إلى تَعْسِ أناسٍ غير أهلٍ للحرية وارتباكهم بحِسِّ مسئوليةٍ جَهِلُوها فى كل زمن، ولا مِرَاء فى أن من المشَاهَد رجوعَ حيوانات إلى أقفاصها بعد أن سُرِّحَتْ، ولكن صغارها التى وُلدت حُرَّةً لم تفعل مثلَ هذا قَطُّ، ولا يصلح رفق بعض النخاسين، الذى يذكره المدافعون عن الرقِّ، أن يكون دليلا مقبولا أكثر من تمجيد مروءة الطغاة. ومما يُرَى وجود عبيدٍ يُعامَلون بأحسنَ مما يعامل به الخَدَم لما لا يعبِّر عنه الخَدَم بثمن. ومما يُرى وجود قبائلَ كثيرة في الحبشة تَعُدُّ من الجور بيع عبدٍ أقام بينها زمنا طويلا، ولكن مثل هذا العبد يكون مهدَّدا بالبيع على الدوام.

 

المسلمون والرق

ويُرَى مع التوكيد أن المسلمين أكرم من النصارى فى ذلك، ومن يَكُنْ له ولد من أَمَة يُلْزَم بتحريرها مع أن قساوسة النصارى لا يُعْتِقُون عبيدهم. وبما أن القرآن يحرِّم الزواج بأكثرَ من أربع نسوة فإن من النادر أن يتزوج المسلم أمةً كانت سُرِّيَّةً لديه، والشريعة تكلأُ (تحرس) العبدَ فى بعض الأحيان، فالعبدُ يُحرَّر إذا ما فقأ سيدُه عينه، وهذه مبادلة جهنمية أدعى إلى الفَزَع من حق القتل!

 

أسباب انتشار الإسلام فى وادى النيل

وعند حديثه عن النيل فى عهد المماليك، تجده يبين أسباب انتشار الإسلام فى وادى النيل، وكيف استقبله النصارى بحماسة، فيقول: “ويستمدون قوتهم من الإسلام، ومع أن النصرانية لم تُقبل بحماسة كما قُبِلتْ به فى وادى النيل دخل نصارى مصر فى الإسلام أفواجا فبلغ الإسلام من قوة الاستقرار بمصر فى هذه القرون الثلاثةَ عشرَ ما يتعذَّر معه على النصارى أن يُنَصِّرُوها مرة أخرى، وفِيمَ تَجِدُ سِرَّ ذلك النجاح؟ تجده فى المنطق الذى ضمن للإسلام، دون الأديان الحاضرة الأخرى، تلك الوحدة بين القوة والإيمان، بين الدولة والمسجد، وذلك لأن مؤسِّسَه جاهد بسيفه فى سبيل إلهٍ قادرٍ على كل شىء، وتجد ذلك، أيضا، فى عدم وجود تناقض دائم يُضْعِف الإسلام ويربكه، كما يؤدى إليه دين الدولة النصرانى، قال النبى: “السيف مفتاح الجنة”. وأشار المترجم عادل زعيتر إلى حديث “الجنة تحت ظلال السيوف”.

 

الفرق بين الفراعنة والمسلمين

ويتحدث عن الفرق بين الفراعنة والمسلمين، وهو اهتمام الفراعنة بإقامة مقابر لهم، فى حين كان اهتمام المسلمين منصبًا على العمران والبناء وحب الحياة، فيقول: “ويتجلَّى الفرق بين الفراعنة والمسلمين فى أن الفراعنة أفنوا أجيالاً بأجمعها فى نقل حجارة إلى ضِفة النيل اليسرى نَيْلًا لملجأ يعيشون فيه إلى الأبد، وفى أن المسلمين، فى المكان نفسه تقريبا، ولكن على الضِّفة اليمنى، أتوا بحجارة لإقامة قلعةٍ لم تَرَ مصر مثلَها قبل ذلك الحين، وبذلك تبدو لك مقابلةٌ بين ضمانٍ تِجاه الموت وضمانٍ فى سبيل الأحياء”.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق