البراح فى اللغة

0 444
       بقلم/ حسين السيد

 

إدخال “أل” على “بعض”
سبق أن تحدثت عن التشدد فى اللغة، وبينت أن ما نعده خطأ يراه آخرون، أكثر علما منا ودراية، صوابا، وأن العيب فينا لجهلنا الكثير من المعارف، أو كما يقول الأصمعى “من عرف كلام العرب لم يكد يُلحِّن أحدا”، وكما نعلم فإن اللغة العربية تسع كل شىء رغم محاولات بعضهم التضييق،  فهى كما قال عنها حافظ:
       وسِعتُ كتابَ اللَه لفظا وغاية           وما ضِقتُ عن آي به وعظاتِ
       فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلة          وتنسيق أَسماء لمخترعاتِ
وفى هذه المرة أتحدث عن كلمات يعدها بعضهم خطأ لكنها ليست خطأ، وإنما تحتمل الوجهين، وإذا استخدمنا وجها، فإن هذا لا يعنى بالضرورة أن الوجه الثانى خطأ ومرفوض.
ولا بد من التقرير أن وظيفة اللغة عندى توصيل المعنى إلى الآخرين، فهى كما عرفها ابن جنى “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذا حدها”، ومن المهم أن يعبر الإنسان عن غرضه بطريقة تلائم القواعد ولا تخالفها، فإن النفس تنفر من الخطأ النحوى الفاحش، كما تنفر من الإنسان العيى، ولهذا فإن” كل من أفهمك حاجته من غير حبسة ولا استعانة فهو بليغ”، كما نقل الجاحظ فى البيان والتبيين عن العتابى.
وعليه، فإنى اعتمدت على صواب هذه الألفاظ دون الرجوع إلى المعجم؛ وذلك لأن مصدرها هم أصحاب اللغة الذين يدركون كنهها أكثر منا، فمثلا قد أستعين بكتابات الجاحظ والمتنبى وطه حسين والعقاد والرافعى والمجمعيين الذين كانوا أعضاء بمجمع اللغة العربية، فإذا وردت الكلمة عند هؤلاء فهى صحيحة ولا غبار عليها.
  • إدخال “أل” على بعض
تذهب أغلب كتب التخطئة والصواب إلى عدم جواز إدخال “أل” على بعض، بحجة أنها معرفة بنفسها، فلا تقبل أداة التعريف، فإذا رأى أحدهم مثلا هذه الجملة: “قال البعض: إن الحياة الآن لا تطاق”، حكم عليها بالخطأ، وحذف “أل” منها فورا.
لكن الصواب هو صحة دخول “أل” على بعض وكل أيضا، فهذا مثلا الجاحظ فى كتابه “البيان والتبيين”، صفحة 145، طبعة الخانجى: “ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون فى بعضهم دون بعض لما سَمَّى ذلك البعضُ البعضَ الآخرَ بهذه الأسماء”، ولم يشر الشيخ عبدالسلام هارون، محقق الكتاب، إلى هذا الخطأ الذى زعمه البعض.
وجاء فى “الكتاب” لسيبويه، إمام النحاة، بالجزء الأول، صفحة 51 ما نصه، يقول سيبويه:”وربما قالوا فى بعض الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وإنما أنث البعض لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه”، ومعلوم أن الكتاب من تحقيق الشيخ عبدالسلام هارون، ولم يقف عند هذا الخطأ.
كما وردت الكلمة فى كتاب “يتيمة الدهر” لأبى منصور الثعالبى، فى الجزء الأول صفحة 162، فقال الثعالبى: “وهذا معنى قد اخترعه المتنبى، وكرره فى تفضيل البعض على الكل، فأحسن غاية الإحسان”. والكتاب طبعة دار الكتب العلمية، وتحقيق مفيد محمد قميحة.
كما ذكر ابن جنى فى الخصائص، نهاية صفحة 65 وبداية 66 من الجزء الأول: “فلما كان الأمر كذلك، واقتضت الصورة رفض البعض، واستعمال البعض، وكانت الأصول ومواد الكلم معرضة لهم،،،” والكتاب حققه الشيخ محمد على النجار، وطبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وفى “شرح شذور الذهب” لابن هشام، صفحة 447 :”وليس بينهما توافق. ولا كلية وجزئية كما فى بدل البعض”، والطبعة التى معى هى طبعة دار الطلائع.
وفى هامش كتاب “شرح قطر الندى وبل الصدى”، ذكر المحقق الشيخ محمد محيى الدين عبدالحميد، صفحة 305:”وزاد بعضهم بدل الكل من البعض”.
وجاء فى مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء العاشر الذى صدر سنة 1958، فى كلمة الدكتور منصور فهمى بمناسبة حفل افتتاح الدورة العشرين، ما نصه:”فمن يدلنى على ظريف متفكه يتولى بنوع من المداعبات كلمة (المِرْنَاة) التى يقترحها البعض لكى تحل محل كلمة (التلفزيون) الطويلة الثقيلة الدخيلة”.
والمرناة هى تعريب لكلمة التلفزيون، وكان “البعض” ينادى باستخدامها بديلا عن التلفزيون.
وفى “المصباح المنير” لأبى العباس الفيومى، تعريف جامع لكلمة “بعض”، فيقول: “قال ثعلب أجمع أهل النحو على أَن (البعض) شىء من شىء أو من أشياء… وقال الأزهرى وأجاز النحويون إدخال الألف واللام على ( بعض وكل) إلا الأصمعى فإنه امتنع من ذلك. وقال أبو حاتم قلت للأصمعى: رأيت فى كلام ابن المقفع ( العلم كثير ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل) فأنكره أشد الإنكار وقال ( كل وبعض ) معرفتان”.
وذهب العالم اللغوى العراقى “مصطفى جواد” إلى جواز إدخال “أل” على بعض، فقال: إن “أل” الداخلة على “بعض” إنما هى للعوض أى العوض عن المضاف إليه”.
وأخيرا، نرى جواز إدخال “أل” على “بعض”، لأنها تنوب عن كلام محذوف، وكما أن هناك تنوين عوض عن جملة، وهو الذى يلحق “إذ” عوضا عن جملة تكون بعدها؛ مثل تنوين حين وإذ وساعة، مثل قوله تعالى “وأنتم حينئذٍ تنظرون”، فأصل الجملة، والله أعلم، حين إذ بلغت الروح الحلقوم، فحذف “بلغت الروح الحلقوم”، وأتى بالتنوين عوضا عنه.
وإذا كان الأمر كذلك فلامانع من إدخال “أل” على بعض، فقولنا فى أول الكلام، “قال البعض: إن الحياة الآن لا تطاق”، تعنى قال بعض الناس، أو بعض الحكماء، أو بعض الاقتصاديين، أو بعض الفقراء.. إلخ، فهنا أغنت “أل” عن تحديد كلمة بعينها، وإنما قد تستدعى فى الذهن مجموعة من الكلمات.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق