التقويم القبطي .. والروح الأوزورية

 

بقلم- ملك عبدالله سمرة –

باحثة أثرية

 

عُرفت حياهالمصريين القدماء بكثرهوتنوع الأعياد، من بينها عيد أوزير بدايه من 10 ديسمبر وحتى 8 يناير من كل عام، والذي يوافق شهر كيهك، وهو الشهر الرابع في التقويم المصري، ويوجد به واحد من أهم الأعياد فى مصر القديمة. المصريين القدماء أعتقدوا أن أوزير هو القوة التى تمدهم بالحياة وتعطيهم القوت فى هذه الدنيا، وأنه هو الأرض السوداء التى تخرج الحياة المخضرةفرسموه وقد خرجت سنابل الحبوب تنبت من جسده بقدوم شهر كيهك الذى يتزامن مع بدايات شهر ديسمبر.

 

يبدأ الاحتفال بأحد أهم الأعياد والتى سجلها قدماء المصريين على جدران معبد دندرة، وقد وصفوه بأنه احتفال الثمانية عشر يوما .والذي يبدأ فى النصف الثانى من شهر كيهك بعد اكتمال القمر مباشرة، أى يقام فى النصف الثانى من الشهر القمرى الذى ينظر فيه للقمر على أنه يمر بمرحلة موت تسبق انبعاثه من جديد فى بداية الشهر التالى فى نهاية كيهك، ويبدأ الفلاحون فى مصر فى غرس بذور القمح والشعير وغيرها من المحاصيل التى يبدأ إنباتها فى فصل “بيريت” (فصل الإنبات). لذلك يحمل احتفال شهر كيهك طابع أوزيري خالص، فيه يتم إعادة دراما موت وبعث أوزير من خلال الطقوس.

كان منظر خروج الحبوب من تمثال على شكل مومياء أوزير مصنوع من الطين فى نظر عامة الشعب فى مصر القديمة بشكل رمزى هو القدرة الإلهية التى تنبت بسببها الحبوب والغلال، وأوزير هو الذى يجعل الغلال تنبت بفضل المياه التى تحمل فى داخلها سر الحياة فتخرج ثمارها لتطعم النبلاء والعامة على السواء يعبر المنظر عن فكرة عودة الحياة للأرض بفضل المياه التى تأتى مع الفيضان فتنبت الحبوب ويخرج الزرع. كما انبعثت روح أوزير فى عالم الأسطورة وعادت للحياة من جديد، لذلك كان غرس الحبوب فى نظر قدماء المصريين بمثابة إعادة تكرار لحدث أزلى هو دفن جثمان أوزير الميت وذلك قبل انبعاثه مباشرة فى صورة نباتات حية تخرج من البذور الميته الخالية من الحياة .

 وقد صف المؤرخ الأغريقى بلوتارك مشاعر الحزن التى كانت تنتاب الفلاحين فى مصر القديمة عند غرس البذور فى بداية موسم الإنبات وكأنهم يقومون بدفن جثمان أوزير .. يقول بلوتارك: “عند قيام الفلاحين فى مصر بتسوية الأرض بعد أن حرثوها وغرسوا فيها البذور ودفنوها تحت التربة كانت وجوههم تعكس الحزن وكأنهم فى حداد على عزيز لديهم قاموا للتو بدفنهلا يعنى ذلك أن أوزير كان مجرد رب للإنبات أو أن صورته الوحيدة التى ينعكس فيها هى صورة الغلال والحبوب والنباتات، لكن لأوزير جوانب أخرى تتعدى الإنبات وهى جوانب كانت جلية حتى بالنسبة لأبسط الفلاحين، فأوزير ليس هو البذرة وإنما هو سر الحياة الكامن فى البذرة والذى ينبعث من جديد حين تتوافر شروط الحياة، وهو القدرة الإلهية القادرة على خلق حياة جديدة من داخل بذرة كانت تبدو لأعيننا ميتة قبل غرسها فى الأرض، ولكى تنبت البذرة وتخرج ما بداخلها من حياة جديدة يجب أولا تفعيل القدرة الإلهية الكامنة فيها وبتوافر شروط الحياة تنبعث القدرة الإلهية من جديد وتعبر عن حضورها من خلال مظاهر محسوسة تتجلى فى مراحل نمو النبات.

 

يبدأ الاحتفال فى الثانى عشر من شهر كيهك بطقس حرث الأرض وغرس البذور فيها، حيث يتم ربط بقرتين لونهم أسود (بلون الأرض) إلى محراث مصنوع من خشب شجرة الأثل ومن النحاس وخلف المحراث يسير صبى وينشر بذور الشعير فى جانب من الحقل وبذور القمح فى جانب آخر وبذور الكتان فى جانب ثالث، وأثناء نثر البذور فوق الأرض المحروثه يقوم الكهنة بترتيل نص دينى يعرف باسم نص “غرس البذور فى الحقل“.

  ويعتبر هذا الطقس محاكاة لحدث ميثولوجى أزلى وهو موت أوزير ودفنه . فى بعض الأحيان يكون الصبى الذى ينثر البذور متبوعا بحمار يسير خلفه حيث تقوم حوافر الحمار بدهس الغلال وجعلها تنغرس فى التربة، وهنا الحمار كان أحد رموز “ست” فى مصر القديمة، وهو ما يؤكد أن ذلك الطقس هو محاكاة لقصة موت وبعث أوزير . يقام هذا الطقس فى كل أنحاء مصر بصور مختلفة ليكون علامة على بداية موسم الحرث والإنبات وذلك بوضع الطقوس داخل سياق ميثولوجى (أسطورى) .. وربما كانت هذه العلاقة بين الحرث وذلك الجزء من أسطورة موت وبعث أوزير هى المغزى وراء تصوير مشاهد الحرث فى كتاب الخروج إلى النهار (فى عصر الدولة الحديثه) كجزء من رحلة الروح بعد الموت إلى “الدوات” (العالم السفلى/النجمى) .

 ولما كان “الدوات” هو عالم التحولات والميلاد من جديد كان لا بد من تصوير الرموز التى تعبر عن موت أوزير وآلامه ثم انبعاثه من جديد والتى لها تأثير سحري على روح المتوفى بالتزامن مع طقس حرث الأرض الذى يجرى أمام أعين عامة الشعب، كان هناك طقس آخر باطنى/سرى يجرى داخل المعابد، وقد جاء وصفه فى نصوص تعود للعصر البطلمى … وفيه يأتى الكهنة بتمثال مجوف من الذهب على هيئة جسد أوزير المحنط ويملأونه بحبوب الشعير وبالرمل، يتم ذلك فى حضور الربة “شنتى” التى تصور على هيئة بقرة منحوته من خشب الجميز ويغطى جسدها بصفائح من الذهب ثم يوضع التمثال فى حوض من الحجر فى قاعه مياه ضحلة ويتم سكب القليل من الماء فيه كل يوم لمدة تسعة أيام متتالية.

 وفى اليوم التاسع يوضع الحوض فى مكان مكشوف ليتعرض لضوء الشمس قبل الغروب، وفى اليوم التالى يتم حمل التمثال وبراعم الزرع التى بدأت تبرز منه والطواف به حول البحيرة المقدسه فى المعبد، ويستمر ذلك لمدة ثلاثة أيام يتم بعدها دفن التمثال فى مقبرة يطلق عليها اسم “بيت سوكر” وهو نفس الموضع الذى دفن فيه تمثال مشابه فى العام السابق حيث يتم إزالة تمثال العام الماضى ليحل محله التمثال الجديد، ولم يكن ذلك الطقس يجرى حصريا بواسطة الكهنة وإنما كان عامة الشعب أيضا يقومون به ولكن بشكل مختلف قليلا وباستخدام مواد أخرى، ذلك التمثال المصنوع من الطين والذى نبتت فيه بذور القمح والشعير وخرجت منه السنابل كانت تلك السنابل تمثل أعضاء أوزير وهى بمثابة الطعام الذى يعيش عليه الآلهة والصالحين من البشر فى العالم الآخر، فالشخص الصالح هو فقط الذى عيش على القمح الإلهى الذى ينمو فى حقول أوزير، لأن أوزير هو إله القمح ومصدر الحياة.

Comments (0)
Add Comment