بقلم: ملك عبدالله سمرة – باحثة أثرية
بهذه الكلمات الثلاثة استطاع أبو التاريخ المؤرخ الإغريقي الأشهر “هيرودوت” خلال القرن الخامس قبل الميلاد، أن يلخص كل شيء، فذلك النهر بدأت على ضفتيه أقدم وأعظم حضارة على الكرة الأرضية، وبدونه تبقى مصر صحراء قاحلة مترامية الأطراف.
أدرك المصريون القدماء أهمية النيل منذ عصور موغلة في القدم، فاجتهدوا في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي. وقد خُصص 15 أغسطس من كل عام يومًا لعيد وفاء النيل، وهنا يعني أن النيل مليء بالمياه وقت فيضانه، وقد عظموا هذا العيد ليبرزوا قدر نهر النيل، جاعلا منه الإله الخالق لمصر واهبًا للحياة والخُلود منذ القدم، وبأن النيل والشمس هما الذين أوحيوا لأجدادنا بعقيدة البعث والخلود التي كانت أحد الأركان الأساسية في حياتهم، حيث يرتفع النيل فيُغرق الأرض بالماء وتخضر النباتات وتعم الخصوبة في الأرض الزراعية بعد موتها.
ومن هنا جاءت فكرة البعث والخلود من خلال الطبيعة المحاطة بهم. وقد أطلق المصريون القدماء على نهر النيل في اللغة المصرية القديمة” إيترو عا” وتعنى (النهر العظيم)، لذلك فإن النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر”. وقد نظر المصريون إلى النيل بعين القداسة، واستخدموا مياه النهر للتطهر، ولأداء الطقوس الدينية، وغسل المتوفى. فكان الاغتسال بماء النيل ضرورة حياتية مصرية كنوع من النظافة والتطهر البدني والروحي، وهي عملية تحمل معنيين: “فعلي ورمزي” في وجدان المصري القديم، فالفعلي يشمل نظافة الجسد، والملبس، والمأكل، والمسكن، فضلا عن التطهر كضرورة لتأدية الطقوس الدينية. أما الرمزي فيشمل طهارة النفس روحيا من كل شائبة.
وبرز تقديس النيل من خلال حرص المصري القديم على طهارة ماء النهر من كل دنس، كواجب مقدس، ومن يلوث هذا الماء يتعرض لعقوبة انتهاكه بغضب الآلهة في يوم الحساب، كما يشير نص قديم إلى أن “من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة”، وأكد المصري في اعترافاته الإنكارية في العالم الآخر ما يفيد عدم منعه جريان الماء ردًا للخير كما ورد في الفصل 125 من نص “الخروج إلى النهار” في (كتاب الموتى)) لم أمنع الماء في موسمه، لم أقم عائقًا (سدًا) أمام الماء المتدفق). ونص آخر يقول” أنا لم ألوث ماء النهر .. لم أمنع الفيضان في موسمه .. لم أقم سدًا للماء الجاري .. أعطيت الخبز للجوعى، وأعطيت الماء للعطشى”.
وخصص المصريون القدماء آلهة لنهر النيل أشهرهم الإله “حعبي” أو “حابي” الذي يمثل فيضان النيل، وجعلوا منه إله على هيئة إنسان، واحتل النيل مكانة كبيرة في نفوس المصريين القدماء ووُصف “حعبي” بـ”سيد القرابين”، وكان أهم دور كمعبود هو تجسيد فيضان النيل، وورد ذكره كثيرًا فيما يُعرف بـ”أناشيد النيل”، ضمن فقرات في “نصوص التوابيت”، كما أُطلق عليه أيضًا “سيد الفيضان”، و”رب أزلي”، و”خالق”، و”رب الأرباب”، و”أقدم الأرباب”، كما وُصف بـ”سيد الكل”، الذي يُحدث التوازن في الكون. ويرجع أقدم ظهور للمعبود “حعبي” كرب للفيضان إلى عصر الدولة القديمة، وأقدم تصوير له يرجع إلى عهد الملك “سنفرو”، ومنذ بداية الأسرة الخامسة بدأ تصوير “حعبي” ضمن أرباب الخصوبة في معبد الملك “ساحورع”، كما صُور على هيئة رجل ممتليء الجسم له ثديان كبيران يتدفق منهما الماء، كرمز للخصوبة والنماء، وصُور حاملاً الزهور والدواجن والأسماك والخضراوات والفاكهة، أو “زهرة اللوتس”، شعار مصر العليا، و”نبات البردي”، شعار مصر السفلى.
يُصوّر الفكر الديني المصري القديم أن روحًا تُكمن وراء هذا النهر العظيم، وتدفع مياه الفيضان حاملة الخصب، وهي روح المعبود “حعبي”، كهذا المقتطف من نص ترنيمة للنيل يقول:” تحية لك يا حعبي، أُخرج من هذه الأرض واحضر لتهب مصر الحياة، إنك تخفي مجيئك في الظلمات، وتغطي مياهك البساتين، أنت واهب الحياة لكل ظمآن”، عندئذ ارتفعت أصوات الأرض مهللة، البطون فرحة وسعيدة، والزهور تهتز من الضحك والأسنان تمضغ، وكانوا يشبهوه بالإله أوزوريس، ويعتقدون أن فيضان النيل على أرض مصر كل سنة يُنبت بالزرع الأخضر، كما أن زواج الإله أوزوريس من إيزيس أثمر الإله حورس. وبما أن الإله “حابى” كان متقلب المزاج، مرة يرضى فيكون فيضانه بمنسوب مناسب، ومرة يغضب فيرسل فيضانًا عاليًا يُهدد بإغراق الأراضي، أو فيضان منخفض فيهدد الناس بالمجاعة. لذلك كان لابد من إرضائه بالذبائح وتقديم الهدايا وإقامة الأعياد للاحتفال بوفائه.