حرب شاملة بعد غزو أوكرانيا
د. أيمن السيسي
هكذا بدأت العجلة تدور وستنتهي دورتها باجتياح جزئي لأوكرانيا ثم يتم ضم الجمهوريتين اللتان أعلنتا استقلالهما وبعدها ستكون هناك مرحلة جديدة من الاجتياح الروسي لأجزاء أخرى من أوكرانيا في إطار تحول عالمي لإعادة رسم وتنظيم خريطة المعمورة مرة أخرى ,مع ملاحظة أن بوتين قال مؤخرا أن “أوكرانيا جزءًا لا يتجزأ من تاريخنا”، هي الجملة الرئيسية -في تقديري – لحساباته في هذه الأزمة، كما أن تايوان جزء من الصين، وتلك أيضا سيكون لها حساباتها ضمن أسباب المساندة الصينية، فضلاً عن أزمة بحر الصين الجنوبي واعتراضات طريق الحرير، إضافة إلى محاولات التكالب الاستعماري على إفريقيا وتنازع القوي الاستعمارية عليها سواء الاستعمار الجديد (الصين وروسيا) أو الاستعمار القديم (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا)، و”أمريكا ” التي تمثل امتدادهم ووريثتهم بالنفوذ الاستعماري الذي استمر بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن ومحاولة الدول الأوروبية إزاحة القدم الأمريكية من مناطق نفوذها خصوصا فرنسا وبالتحديد في مستعمراتها القديمة جنوب الصحراء الكبري مع بزوغ فجر جديد للعالم وبداية أفول حقبة النفط مع تزايد كلفة استخراجه أو استكشاف حقول جديدة ورغبة العالم أو اضطراره إلى التحول إلى الطاقة الجديدة والنظيفة مثل الرياح، والشمس، والغاز، وتعاظم الاحتياج إلى اليورانيوم وعدد من الموارد الطبيعية التى تحفل بها أراضي إفريقيا، وهو ما يفسر التغلغل التسريبي الروسي إلى هذه الدول بداية من إفريقيا الوسطى رسميا ببعثة عسكرية وتواجد في القرن الإفريقي، والسودان، وليبيا، ومالي، وبوركينا فاسو، ومحاولات التسلل إلى موريتانيا، والجابون، ونيجيريا، والنيجر في توافق مع إيران”الشيعية” مماثل لتوافقهما في سوريا والعراق واليمن، وهو أمر يسير في خط عكسي مع محاولات قلقلة الوجود الفرنسي في الدول الإفريقية، التي بدأت بالحديث عن فك الارتباط الاقتصادي مع فرنسا لدول غرب إفريقيا الخمس التي تتعامل بالفرنك “سيفا” وانتهت مؤخرا-وليس أخيرا- بطرد السفير الفرنسي في “مالي”، ومطالبة زعيم الانقلاب الأخير فيها “اسيمي جويتا” لفرنسا لسحب قواتها برخان في أقرب وقت، مرورا بالحراك الشعبي في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، ونيجيريا، وتشاد، وإفريقيا الوسطي المطالب برحيل الفرنسيين وكل القوات الأوروبية وقواعدها العسكرية والتي يرون أن وجودها أسهم في تقوية الجماعات الإرهابية وزعزعة استقرار بلدان إفريقيا بداية بليبيا التي تزعمت فرنسا حلف “الناتو” في تعاون مع أمريكا لتدميره بمباركة عمرو موسي وجامعة الدول العربية.
ولم تستطع فرنسا مؤخرا مواجهة الوجود الروسي في دول الساحل إلا بإعلان وزير خارجيتها “جان ايف لودريان” في نهاية يناير الماضي أن “مجموعة فاجنر الروسية تنهب موارد مالي إفريقيا الوسطى وأنها ترتكب تجاوزات فظيعة، وهي “صرخات” لن تجدي. فالقرار في دول الساحل آخذ في التبلور ليس ضد فرنسا فحسب ولكن ضد الوجود الأوروبي عامة سواء قوات “تاكوبا” أو قوات “مونيسمو” لصالح التغلغل الروسي تسانده خفاء الرغبة الجزائرية صاحبة التواجد التاريخي في المنطقة وعملاء الأمن الجزائري في الجماعات الإرهابية وعصابات التهريب -مخدرات وإرهابيين وأسلحة – في الصحراء الكبرى، ووجود قيادات جزائرية لهذه المكونات جميعها، فضلا عن امتدادات هذه الجماعات في ليبيا مع الأخذ في الاعتبار الخلافات الفرنسية الجزائرية منذ 2011 سواء في أزمة ليبيا أو مالي وصحراء المغرب “البوليساريو”.
وبالتالي، فإن الصراع على موارد إفريقيا صار على أشده بين روسيا وأوربا وأمريكا وهو مماثل لصراع نفس القوى على باب المندب وسوريا والعراق والخليج العربي، إن كانت دويلات الخليج ليست إلا أدوات ألجأت أزمة اوكرانيا-أمريكا للتلويح مؤخرا بمحاسبة الحوثيين في اليمن وهو ما لن يحدث لأهمية باب المندب وتحكم الحوثيون فيه وقربهم من القواعد العسكريةالأمريكية والفرنسية على مرمى حجر منها في جيبوتي، وإن غازلت السعودية والخليج بالتزامها مع شركائها في الخليج أو بالأحري وكلائها -الذين لم يعد لهم دور إلا الالتزام بقرارات أمريكا في حال نشوب الحرب، باعتبار المنطقة العربية -الخليج والسعودية- مناطق رخوة عسكريا وإنسانيا، خصوصا بعد ارتفاع سقف التوقعات بحقيقة الإقدام الروسي على غزو أوكرانيا، وهو ما تفرضة حركة الصيرورة التاريخية. فروسيا لم ولن تنسى تفكيكها وإضعافها واستقطاع أراضيها، ولذلك فيبدو -في ظني- أن إصرار بوتين على استعادة موقعها في صدارة العالم بمساندة الصين هو أمر حتمي، وأن تراجع بوتين صعب رغم ارتفاع كلفة الحرب لأنه إن تراجع ستتراجع شعبيته، ولن تتراجع أمريكا وأوروبا عن إنفاذ عقوبات اقتصادية أكثر خنقا له ولاقتصاد بلاده المتردي بالفعل على ذلك، فإن إسقاط أمريكا عن عرشها على قمة العالم ضرورة حتمية حسب حركة التاريخ، ورغبة أكيدة لدى روسيا والصين ومن يدور في فلكهما، وبالتالي إعادة صياغة العالم من جديد في كل أموره بداية من الإعلام والصحافة وحتي حدود الدول.
ولكن هل ستسقط أمريكا بسهولة أم أنها ستضحي بحلفائها الأوروبيين لصالح مبيعاتها من الأسلحة والأدوية، ولضمان عدم الصدام مع روسيا والصين، وسيفرغون ثلاثاتهم لتقسيم العالم، و أين سيكون موضع تركيا خصوصا أنها نشبت أظافرها في مناطق النفوذ الاستعمارية القديمة ومواطن الموارد الطبيعية من غاز ويورانيوم وذهب مثل سوريا وليبيا ودول الساحل والقرن الإفريقي، وتنتظر العام القادم 2023 لاستعادة بعض الأراضي التي خسرتها مجبرة بناء على اتفاقية لوزان 1923 بعد مضي الأعوام المائة، وهي مدتها التي أجبرتها أيضا على عدم التنقيب عن النفط والغاز في أراضيها وعدم فرض رسوم عبور في مضيق البسفور وغيرها من المواد التي تراها تركيا ظالمة، ويصرح أرودغان أنه سيعمل على استعادتها، ومنها بعض الأراضي العربية.
ولهذا، فإن العرب ينتظرهم مصير أسود، حيث ستتبادل الدول الاستعمارية مكاسبها في ملفاتها كلها على حسابهم. وهنا أحيي رئيس مصر عبد الفتاح السيسي وجيشها وأجهزتها الأمنية، وعلى رأسها المخابرات العامة المصرية “عقل مصر” لاستشرافهم المستقبل، فعملوا على تقوية الجيش ورفع كفاءته القتالية وتطويرها وتحديث معداته العسكرية وتنوعها، وهو ما اعتبره البعض عند شرائها بالمليارات أنه ترف ليست مصر -وهي دولة فقيرة -بحاجة إليه، ولكنهم -الرئيس والجيش والمخابرات-كانوا أكثر دراية واستشرافا للواقع وتحسبا لما سيحدث، وقد تكون حرب شاملة قبل أن يتفق العالم على تسوية شاملة.