بقلم/ سارة السهيل
اختار الله سبحانه وتعالى شهر رمضان المبارك لينزل على نبيه الذي اصطفاه دينه وأحكامه وتعاليمه، فهذا الشهر الفضيل استقبل كلمات الله التي استُحكمت في قلب نبي الرحمة وأنزلت عليه سكينةً واطمئنانًا. فهناك سر روحاني لهذا الشهر الكريم ينعكس على طبيعة البشر مثل الهدوء والسكينة والتعقل بالأقوال والأفعال، فنجد الشخص العصبي أصبح أكثر هدوءً، وسيطرة الإنسان على جوارحه وغرائزه أقوى.
أردت في مقدمتي الربط بين شهر الرحمة والرحمة التي أمرّ الله بها عباده فيما بينهم بشكل عام وفي الأسرة وبين الزوجين بشكل خاص. فكثير من الأسر تعاني صراعات ومشاحنات سواء بين الزوجين أو الأبناء والوالدين، أو بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة، مما يشعر هذه الأسر بغياب الأمان الداخلي وعدم الإحساس بالطمأنينة والسكن النفسي.
ولا شك في أن هذه الصراعات والمشاحنات الأسرية مرجعها الأساسي غياب الحب والتفاهم بين أفرادها، وعدم الشعور بالحب المتبادل ناتج هو الآخر عن غياب التعامل الصحي داخل هذه المؤسسة وعدم مراعاة أعضائها لآداب التعامل، فيقعون في مشكلات وخصام وتناحر لا نهائي يزعزع الاستقرار الأسري والمجتمعي.
فعندما يحل علينا شهر رمضان المبارك حتى تحاول الأسر أن تلم شملها وتجمع أواصرها لترتاح من الشحناء بقيم مستمدة من روحانيات الشهر الكريم وأهمها التسامح والعفو والحرص على تحقيق صلة الرحم وإشاعة روح المودة. فرمضان شهر العبودية والرحمة والمغفرة والتسامح والجود والكرم والإنسانية في أعظم تجلياتها، ولذلك يجب علينا أن نستثمر طاقاته الإيجابية الروحانية، وما توفره من صفاء ذهني وروحي في الوقوف مع أنفسنا لنتساءل: لماذا لا تصفو العلاقات الأسرية، ولماذا لا يتعاون جميع أفرادها على تبادل الحب والرحمة والتعاون في أداء المسؤوليات اليومية داخل المنزل والعمل على تذليلها؟ ولماذا لا يتعاون أفراد الأسرة في إرساء قيم الحوار والتفاهم بعيداً عن الأنانية والتسلط والقهر؟
شهر الصيام يُعد فرصة ذهبية لعلاج المشاكل الأسرية، خاصة وأن هذا الشهر الكريم يُعلمنا ويغرس فينا سلوكيات قد نتشربها من المقربين منا مثل العطاء وإيثار الآخرين على أنفسنا، والتخلي عن الكبر والعند والأنانية المدمرة للفرد والمجتمع.
الموائد الرحمانية
التجمعات العائلية خلال الشهر الفضيل، سواء على مستوى الأسر الصغيرة أو العائلة الكبيرة خلال وقت الإفطار، وتجمع مختلف الأجيال على هذه المائدة الرحمانية من الأجداد والآباء والأحفاد يقوي الروابط الاجتماعية داخل أفرادها ويشعرها بالتماسك والقوة ويكسب أفرادها الثقة بالنفس.
وقد أثبتت أحدث الدراسات العلمية أن تجمع الأسرة والعائلة بشكل منتظم يحمل الكثير من الانعكاسات النفسية الإيجابية على الأفراد، شريطة أن تكون الأجواء العائلية ودودة ومريحة لجميع أفرادها، وألا يكون وقت الطعام مخصصاً لمناقشة المشاكل الداخلية أو تأنيب وتوبيخ أحد أفراد العائلة، واجتماع الأسرة على مائدة الإفطار يقيم جسور التواصل بين أفرادها ويقوي شعور المحبة والتسامح وتحقيق الألفة بين القلوب.
ولما كانت الأسرة من أهم المؤسسات التربوية التي يكتسب الفرد معظم قيمه منها، فإنها تظل حصن الأمان الذي يعود إليه الفرد مهما شط عنه في مرحلة المراهقة سعياً منه لتحقيق الاستقلالية، لكنه سرعان ما يعود للقيم الأسرية التي اعتاد عليها من والديه.
سلوكيات شديدة القسوة
إن التعامل الصحي بين الأبوين من مودة ورحمة وتفاهم وحزم مع الوعي بقيمة الترابط الأسري يُعد نمطاً مثالياً لتنشئة أبنائهما ويجنبهم الكثير من الصراعات، غير أن كثيراً من الأسر تقع في فخاخ التفكك نتيجة الأنانية المفرطة لدى الأب أو الأم، والبعض يقع في فخاخ التسلط والقهر بعيداً عن ضرورات الرحمة والمودة، ما يؤدي إلى مشكلات عدة تنعكس سلباً على الأبناء.
كما تعاني بعض الأسر من القصور في فهم دورها التربوي في تنشئة الصغار ما يقودهم إلى انحرافات سلوكية شديدة القسوة، فهناك نمط الحماية الزائدة للأبناء، أو التسلط القهري أو التدليل الزائد وهو ما قد يصيب الإبن بالاضطراب أو الضعف في الشخصية، فيفقد القدرة على التكيف السوي مع بيئته، كما يؤدي إلى زعزعة القيم لديه.
قيم عليا
إن الأزمات الأسرية تقع وتتواصل نتيجة غياب الوعي الثقافي بدور الأبوين في الحفاظ على العلاقة المقدسة بينهما، وأن هذه العلاقة هي كيان وبناء لابد أن يبقى صامداً في مواجهة تحديات الحياة بالصبر عليها وعبورها بالتفاهم والعلم والحب والتسامح والتعاون، هذه المعاني الأخلاقية لابد أن تكون موجودة لدى الأبوين حتى تنتقل منهما إلى الأبناء خلال مراحل تربيتهم. فالوالدان ينبغي أن يتحريا قيم الصدق بينهما ليكونا قدوة لذريتهما، وأن يتبادلا مواقف الحب والعدل والصبر والإخلاص والوفاء فيما بينهما حتى يتعود الصغار منهما على هذه القيم العليا.
خبرات الحياة
إن الأسرة بدءاً من الوالدين ينبغي أن يصححا علاقاتهما دائماً بالصداقة بينهما، حتى يستطيعا لاحقاً أن يصاحبا أبناءهما. فالوالدان مطالبان بتوفير بيئة صحية للصغار ملؤها الحنان والحب واللين والحزم بلا قسوة، وأن يتعاملا مع أطفالهما وكأنهم أخوة وأصحاب حتى تشيع المودة بين أفراد الأسرة.