بقلم/ حسين السيد
تمر اليوم الذكرى السبعون على ثورة 23 يوليو 1952، كانت لهذه الثورة أهداف وشعارات ومبادئ سعت، لا شك، لتحقيقها. فالشعب يتذكر الزعيم جمال عبد الناصر فى خطبته الحماسية قائلا: ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد، وشاهدنا أفلام: “رُد قلبي” و”غروب وشروق” و”ناصر 56″، ورأينا الفلاحين المُعدمين وهم يتسلمون من عبد الناصر عقود ملكية الأراضي الزراعية، وشاهدناه وهو يحنو بحق على الفقراء والمهمشين، ويقضي على الطبقية، وتأميم قناة السويس، ويعطى إشارة البدء في مشروع بناء السد العالي، وأحدث نهضة صناعية كبرى، انتشرت في أرجاء مصر، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، ولا أحد ينكر تلك الإنجازات التي حققها الزعيم جمال عبد الناصر في عصره، في الوقت الذي كانت تحاربه قوى الاستبداد والإمبريالية العالمية (إنجلترا، وفرنسا، وأمريكا، وإسرائيل .. الخ)، فكان رجل القرن بلا منازع.
أذكر أنني كنت أستمع لمجموعة من خطبه الممتعة التي جمعتها ابنته هدى عبد الناصر، واستمعت أيضا بخطابه الذي ألقاه على الجماهير في الإسكندرية في 26 يوليو عام 1956، بمناسبة تأميم شركة قناة السويس (شركة مساهمة مصرية)، ولفت نظري، واسترعى انتباهي أحد الأمور، عندما كان يحاور عبد الناصر مدير البنك الدولي بشأن تمويل مشروع السد العالي، الذي يُعد بناؤه ملحمة بكل المقاييس، وكان مدير البنك يُملي عليه الشروط ليدور في فلكه ويكون تحت جناحيه، وهنا تذكر عبد الناصر فرديناند ديليسبس حين زيَّن للخديو سعيد مشروع حفر قناة السويس، وأقنعه بضرورة الاقتراض لإتمام المشروع، وانتفض عبد الناصر ثائرًا بقوله: “قلت له بصراحة، إن عندنا عقدة من ناحية القروض والفوائد، ولا يمكن فصلها عن السياسة، لأننا رُحنا ضحية الاحتلال بسبب القروض، فلن يُقبل أي مال يمس سيادتنا”، وبعد عشر صفحات تكرر مثل هذا الكلام، “ثم قلت له نحن عندنا عقدة من هذه الموضوعات، ونحن لا نريد أن نرى كرومر في مصر مرة ثانية ليحكمنا. عمل في الماضي قروضًا وفوائد على القروض وكانت النتيجة أن احتلت بلدنا، فأرجوك أن تضع هذا الاعتبار في نفسك وفي كلامك معي، فنحن عندنا عقدة من ديليسبس وكرومر.. عندنا عقدة من الاحتلال السياسي عن طريق الاحتلال الاقتصادي”.
هكذا كان عبد الناصر يرى في الاقتراض الضرر الأكبر الذي تلجأ إليه الدول العاجزة عن حل مشاكلها بنفسها، كانت لديه عقدة في الاقتراض، فهو يعلم أن سبب احتلال مصر إنما كان بسبب القروض والفوائد وموعد سدادها والعجز عن السداد، وهو ما يدعو الدول الدائنة إلى فرض الوصاية عليها، ورويدًا رويدًا تجد الدولة نفسها وقد وقعت تحت الاحتلال. لقد كان صائبًا فى مسألة الاقتراض، فافعل أي شيء ولكن لا تقترض، ثم ألا يحدث هذا في عصرنا الحديث، نعم لم يعد هناك احتلال بمعناه السياسي، لكن هناك احتلالاً آخر تقع فيه الدول عن طريق البنك الدولي، أوليس احتلالاً أن يفرض البنك شروطه عليك، فيأمرك بإلغاء الدعم عن السلع الأساسية؟! أو تتخلى الدولة عن القطاع الحكومي أو تقوم بخصخصته؟ أو أن تترك السوق للتجار الجشعين وتملص يدها منه لتترك الشعب فريسة لهؤلاء؟ ألا يُسمى هذا احتلالاً.
وكانت النتيجة، أن حققت مصر فى عهد عبد الناصر ابتداءً من عام 1957 وحتى 1967 نهضة اقتصادية كبيرة، حتى إن البنك الدولي قد أصدر في تلك الفترة تقريرًا عن الحالة الاقتصادية بمصر، ذكر فيه أن نسبة النمو الاقتصادي طوال تلك السنوات العشر كانت تسير بمعدل 6.2% سنويا، بل إن النسبة ارتفعت إلى 6,6% من عام 1960 حتى عام 1965، راجع كتاب “لمصر لا لعبد الناصر”، للمؤلف محمد حسنين هيكل، كما ذكر فيه تقرير البنك الدولي الصادر عام 1976.
ولم يخلف عبد الناصر ديونًا كثيرة على مصر، وهناك شبه إجماع، على أن الديون كلها كانت ديون إنتاج، أي لتمويل مشروعات إنتاجية، كأن تقترض مبلغًا من المال مثلاً مقابل إقامة ورشة إنتاج، فمؤكد أنك ستسدد ما عليك من ديون بمجرد تشغيل الورشة، وهذا هو الفرق بين عبد الناصر ومن أتى بعده، فالديون ليست للإنتاج وإنما للاستهلاك، ولذا فإن الديون ارتفعت بفوائدها، حتى وصلت إلى أرقام خيالية.
وهذه كانت رؤية عبد الناصر الراسخة، في محاولة النهوض بمصر حتى إن استلزم الأمر الاقتراض، فليس عيبًا أن تقترض إن كنت فقيرًا لكي تبني بلدك، وهو ما عبَّر عنه في خطاب تأميمه للقناة، إذ قال: “ليس عيبًا أن أكون فقيرًا واقترض لكي أبني بلدي، أو أحاول أن أجد مساعدة لأجل بلدي، ولكن العيب أن أمتص دماء الشعوب، وأمتص حقوق الشعب”.