ضرورة علم الكلام وتحديثه
بقلم/ حسين السيد
لأننا فى عصر أساسه إعمال العقل، وقوامه الحجة والبرهان، ويتخذ من العلم طريقًا ومسلكًا له، وكل ما عداه يراه زيفًا وباطلاً، ولأننا فى عصر كثر فيه الشك وعدم الإيمان، فنحن بحاجة إلى علماء كلام، فهم وحدهم القادرون على كبح جماح الضالين والمشككين، وعندهم أدلة تشفى كل غليل، ونحن نعيش فى زمن يحتاج إلى إجابات مقنعة ترضى غرور العقل.
فى كل يوم نصبح ونمسى على هجوم على ثوابت المعتقدات، سواء كان ذلك بحسن نية أو بسوء طوية، وتُعقد المناظرات بين المهاجمين والمدافعين، وأحيانا يكون المهاجم أكثر إقناعا من المدافع، لأن هجومه قد يكون فيه شىء من المنطقية أو العقلانية، أما المدافعون عن الثوابت فأحيانا إجاباتهم غير مقنعة، ويلزمك العقل أن تعلن انهزام المدافع وانتصار المهاجم، ومن ذلك أن تقتنع لأول وهلة بآراء إسلام البحيرى وإبراهيم عيسى ومن على شاكلتهما أو حامد عبدالصمد أو أحمد صبحى منصور ومن يسير على دربهما، أقول قد تقتنع بآراء هؤلاء الفئة، لكنَّك إن أعملت قليلا من العقل اكتشفت أنهم ليسوا على حق وفندت آراءهم بمنتهى السهولة، وهذا يرجع، من وجهة نظرى، إلى جهلنا المطبق نتيجة عدم القراءة لكسلنا، أو لعدم استيعاب عقولنا مثل هذه المسائل، فنترك لهم الأمر برمته يفتون ونحن بهم مقتنعون.
والخوض فى الإسلام والتعرض له كان قديمًا منذ نشأته، ومع انتشاره فى أرجاء المعمورة وإذعان الأمم الأجنبية له واحتكاكه بأصحاب هذه الثقافات، بدأت تظهر حركات ودعوات تثير اللغط فى أوساط المسلمين، فظهرت دعوات تنادى بتفضيل العجم على العرب، مثل حركة الشعبوية، وتناولهم الجاحظ فى كتابه “البيان والتبيين”، وانشرت الزندقة والإلحاد وعلى رأسهم ابن الرواندى الذى تعرض له الدكتور عبدالرحمن بدوى فى كتابه “من تاريخ الإلحاد فى الإسلام” وغيره، إضافة إلى بعض الفرق الهدامة التى تصنف ضمن المذاهب الإسلامية، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل تعداه إلى طلب الملوك المناظرة، لمعرفة أى الأديان أحق أن تتبع، فهذا ابن المرتضى فى كتابه “المنية والأمل” يروى لنا ما يؤيد كلامنا، فيروى عن أبى الحسين الخياط، صاحب كتاب “الانتصار”، “أن بعض ملوك الهند كتب إلى الرشيد فقال: ليوجه إلى رجلا من علماء المسلمين ليعرفه الإسلام، وذكر أن عنده رجلا من أهل الكلام حتى يحاجه، فوجه إليه رجلا من المحدثين شيخا بهيا، وكتب إليه: إني وجهت إليك شيخا عالما.
فخاف الرجل الهندى الذى كان عند الملك أن يكون من أهل الكلام فيفضحه، فوجه إليه رجلا فى السر ليتعرف خبره فلقيه فى الطريق فوجده صاحب حديث، فرجع إلى صاحبه فأخبره به، فسُّر بذلك، فلما ورد على الملك جمع بينه وبين صاحبه وجمع علماء أهل مملكته فقال له الهندى: ما الدليل على أن دينك حق؟
فقال المحدث: حدثنا سفيان الثورى هكذا، وحدثنا شعبة بكذا، وحدثنا ابن عون بكذا.
فكتب الملك إلى هارون يخبره، وذكر أن الذى وجَّهه لا يصلح لما أردناه وإنما نريد رجلا متكلما ليحتج لأصل دينه ولأصل الإسلام.
فلما ورد الكتاب والمحدث على هارون قال: اطلبوا لى متكلما فوجدوا أبا خلدة، فقيل له: أتثق بنفسك في مناظرته، فقال: أنا له إن شاء الله تعالى.
فوجه به الرشيد فى مركب وكتب إلى ملك الهند: إنى وجهت إليك رجلا متكلما من أهل دينى، فلما كان فى بعض الطريق وجه الهندى إليه من يختبره فوجده متكلما فدس إليه سما فقتله قبل أن يصل إلى الملك” ا. هـ.
وربما تكون هذه الحكاية غير صحيحة بالمرة، وأنها مدسوسة للدفاع عن المعتزلة وآرائهم، خاصة أنها وردت بطريقة أخرى فى كتاب “المنية والأمل” نفسه، وأن الرشيد أمر بإرسال صبى من المعتزلة وليس رئيس فرقة ليسافر إلى الهند ليناظر هذا المتكلم الهندى الذى عجز عنه شيخ من المحدثين.
ومهما يكن الأمر فإننا لاحظنا أن المتكلم الهندى كان متخوفا من مناظرة متكلم مسلم، وكيف أنه أبدى سروره لمناظرة شيخ من أهل الحديث، لأن ردود شيخ الحديث معروفة، ويستطيع الهندى أن يهزمه بمنتهى السهولة، كما يحدث الآن فى وقتنا الحالى، حيث يتوهم بعض الناس أن إسلام البحيرى وغيره على حق لأنه يخاطب عقولهم، أما إذا تصدى له متكلم فإنه يكشفه ويبين ألاعيبه.
ومن ثم فإننى أرى ضرورة التسلح بعلم الكلام ودراسته واستيعابه، فهو السلاح القادر على غلبة أى خصم مهما كان، بالعقل والمنطق، لا بالسيف وإراقة الدماء.
ولا عجب فى كلامنا هذا، لأن علم الكلام فى أصله نشأ للدفاع عن العقيدة الإسلامية، فانظر إلى تعريف المعلم الثانى “الفارابى” لعلم الكلام، فيقول عنه فى كتابه “إحصاء العلوم”:
“وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التى صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل”، وعرَّفه عضد الدين الايجى بأنه “علم يقتدر معه إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه”، وكذلك تعريف صاحب “كشاف اصطلاحات الفنون” هو نفس هذا المعنى، وللمزيد حول هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور فيصل بدير عون، “علم الكلام ومدارسه”، و”الفرق الكلامية الإسلامية.. مدخل ودراسة” للدكتور على الفتاح المغربى، وغيرهما.
ونلاحظ أن وظيفة علم الكلام هى الدفاع عن العقيدة الإسلامية، والرد على المنكرين لتلك العقيدة، الذين لا يخلو منهم أى زمن، لكن الرد على هؤلاء لا يكون إلا باستخدام نفس سلاحهم وهو العقل، فهو كفيل بدحض الآراء الشاذة، وكان المعتزلة يقومون بهذا الدور، وقد دافعوا عن الإسلام بعقلانية، وأدخلوا فى الإسلام طوائف شتى، فمثلا يذكر “أحمد أمين” فى كتابه “ضحى الإسلام” أن أبا الهذيل العلاف، وكان على رأس فرقة، “قد امتلأت حياته بالمناظرة والجدل مع الزنادقة، والشكاك، والمجوس، والثنوية، ورووا أنه أسلم على يده أكثر من ثلاثة آلاف رجل”، ومن هؤلاء الشاعر صالح بن عبدالقدوس الذى كان من الثنوية، وهو مذهب يدين بأن العالم من أصلين قديمين نور وظلمة، فلما ناظره العلاف غلبه ورده إلى حديقة الإيمان الوارفة.
ولمعرفة أهمية علم الكلام، وكيف أنه حائط صد منيع، يدفع عن الإسلام التهم والضلالات، نورد نموذجا من مناظرة العلاف مع المشككين أورده أحمد أمين فى كتابه سالف الذكر، فمن ذلك “أنه جاءه رجل فقال: أشكلت علىَّ آيات من القرآن توهمني أنها ملحونة، فقال أبو الهذيل: أأجيبك بالجملة، أو تسألنى عن آية آية؟ قال: بل تجيبنى بالجملة. فقال أبو الهذيل: هل تعلم أن محمدًا كان من أوسط العرب، وأن العرب كانوا أهل جدل؟ قال: نعم. قال: فهل تعلم أن العرب اجتهدوا في تكذيبه؟ قال: نعم. قال فهل تعلم أنهم عابوه باللحن؟ قال: لا، قال أبو الهذيل: فتدع قولهم مع علمهم باللغة، وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟”.
والمبدأ الذى يؤمن به العلاف تجاه ما يُسمى “اللحن فى القرآن”، هو المبدأ الذى أؤمن به تجاه كل من يدَّعى أنه وجد خطأ نحويًا أو لغويًا فى القرآن، وهو مبدأ فى غاية الإحكام، فكل من يزعم بوجود أخطاء فى القرآن، نقول له: هل عجز العرب عن اكتشاف هذه الأخطاء وقد صوبوا سهامهم تجاه القرآن ليطعنوا به على الرسول (ص)؟! وهم من هم فى اللغة، وأين أنت منهم يا من تبحث عن أخطاء فى القرآن؟ إن سكوتهم عن هذه الناحية، ليس عن تقصير، يدل على أن كل ما جاء بالقرآن لهو صحيح مستقيم.
وأخيرا، نقول إن علم الكلام لا يعتمد على النقل وحده وإنما يعتمد على العقل، ولم يخالف النقل مطلقا، بل هو داعم له مؤكد له أيضا، وقد ذكر الدكتور فيصل بدير عون شرطين لابد من توافرهما لكى يكون البحث مندرجا تحت علم الكلام، وهما: أن الباحث يبدأ عقيدته من كتاب الله وسنة رسوله، والشرط الثانى أن يكون هدف الباحث الدفاع عن هذا الإيمان بالعقل، أى لابد له من أن يؤكد الشريعة بالعقل.
فعلم الكلام جاء للدفاع عن العقيدة الإسلامية كما قلنا، ومن ثم فإنه ينطلق من القرآن الكريم وسنة النبى، وأنه جاء داعما لهما، أى نستخدم العقل للذود عن الملة، لا أن يكون معول هدم كما يلجأ إليه الآخرون ممن لهم اتجاهات أخرى، لهذا نحن بحاجة إلى علم الكلام بهذه الضوابط التى ذكرناها فى عصرنا الحالى.