التشدد فى اللغة .. وجه من عدة أوجه
بقلم: حسين السيد
فى أثناء دراستى الجامعية، كنت دائم التردد على مجمع اللغة العربية، لألتقى أستاذى المرحوم الدكتور “رجب عبدالجواد إبراهيم”، طيب الله ثراه، وكان يأتى معى صديق يكتب الشعر، هاجر الآن إلى أمريكا، ولم تعد له صلة باللغة العربية، وكأنه ما درس أربع سنوات فى آداب حلوان. وكنا نسأل الدكتور رجب فى النحو واللغة؛ إذ كان خبيرا بالمجمع، وذات مرة أتى طالب دكتوراه وسلَّم علينا، ثم أعطى الدكتور كتابا كان يطلبه، ولمحت عنوان الكتاب الذى كان مجرورا، فسألت الدكتور: لماذا هو مجرور؟ وحكمت على العنوان بأنه خطأ، وانتظرت الدكتور ليؤيدنى فيما ذهبت إليه، لكنه قال: لقد تعجَّلت فى إصدار حكمك هذا، العنوان ليس خطأ كما زعمت! فقلت: ما الصواب إذن أستاذنا الدكتور؟ قال: اعلم أن أى عنوان يجوز فيه أربعة أوجه: الأول أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ والخبر محذوفا، والثالث أن يكون مجرورا، والرابع أن يكون منصوبا. وشرح لى بالتفصيل كل وجه من هذه الأوجه، وقال لى: لا تتعجل فى تخطئة الناس، وقال القولة المشهورة التى أسير عليها حتى الآن: إن أنحى النحاة من لم يخطئ أحدا، أى أكثر الناس علما بالنحو سيجد مخرجا لكل ما يقال؛ حتى إنه لن يقوم بتخطئة أحد. ومن حينها رحت أقرأ بعضا من كتب النحو واللغة، ولا أتعجل فى إصدار الأحكام.
* أقول هذا، لأنه قد انتشرت كتب التخطئة والصواب فى الآونة الأخيرة، وكلُّ من قرأ كلمتين سارع بإعطاء النصح، عن طريق: قل ولا تقل. كما أننى لا أحب من يتفاصح بل أتبرم به، لأننى على يقين أنه ليس على دراية بجميع أوجه الكلام، إضافة إلى أنه يخطئ فى حديثه دون أن يدرى، ومن هؤلاء، مثلا، وعَّاظ المساجد، فكثير منهم يعظون الناس، ويتحدثون الفصحى، لكن حديثهم أو أغلبه أخطاء، نحوا ولغة، وأيضا السادة القضاة؛ حيث إن كثيرا منهم لا يقرأون الأحكام كما يجب، ولا أنسى القاضى الذى كان يتلو منطوق الحكم على الرئيس الأسبق مبارك، فكل كلمة يقرأها كانت خطأ؛ حتى تجاوزت أخطاؤه المائة، وكذلك من يدَّعى العلم والمعرفة وهو بحاجة إلى التعلم من جديد، وكثيرا ما كنت أردد بينى وبين نفسى قول أبى العتاهية:
يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ متَّهما .. إذ عبتَ منهم أمورا أنت تأتيها
اهتم علماء العربية بالتصدى لظاهرة اللحن، فمنذ أن ألَّف الكسائى كتابه “ما تلحن فيه العامة”، قام بتحقيقه الدكتور رمضان عبدالتواب، توالت من بعده الكتب فى مجال لحن العامة، فألف المفضل بن سلمة “ما تلحن فيه العامة” بتحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، وابن قتيبة “أدب الكاتب”، ووضع ابن السكيت مؤلفه “إصلاح المنطق”، وأبوبكر الزبيدى “لحن العوام”، و”تثقیف اللسان وتلقیح الجنان” لابن مكى الصقلى تحقيق الدكتور عبدالعزيز مطر، وغيرها من الكتب التى تصدت للظاهرة، أما حديثا فمن أشهر هذه الكتب، يأتى كتاب “لغة الجرائد” لإبراهيم اليازجى، و”أغلاط اللغويين القدماء” للأب أنستاس مارى الكرملى، و”تذكرة الكاتب” لأسعد خليل داغر، و”قل ولا تقل” لمصطفى جواد، “ولغويات وأخطاء لغوية شائعة” للشيخ محمد على النجار، و”معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة” لمحمد العدنانى، و”معجم الصواب اللغوى” لأحمد مختار عمر، وغيرها من الكتب، وسنتغافل عن كتب المعاصرين؛ لأنها تجميع عن كتب الأقدمين.
لم يحظ كتاب بالعناية والشرح والنقد مثلما حظى كتاب “درة الغواص فى أوهام الخواص” لأبى القاسم الحريرى صاحب المقامات، توفى 516 هـ، فيقول عنه محققه، محمد أبو الفضل بن إبراهيم: “وكتاب درة الغواص فى أوهام الخواص من أحسن هذه الكتب تأليفا، وأجملها تصنيفا، وأعلاها شأوا، وأعظمها قدرا، تعقب فيه الكتاب والشعراء وأساليب العليو من المتأدبين والمنشئين، ونبه إلى أخطأئهم، وأشار إلى استعمال الفصيح من الألفاظ والمستقيم من الأساليب”، لكن العلماء لم يقروا الحريرى على ما زعم أنها أخطاء، فتعقبه “ابن برى”، وهو أبو محمد عبد الله بن برى بن عبد الجبار بن برى، توفى 582هـ، وكان ابن ابرى “يتحدث ملحونا، ويتبرم بمن يتفاصح” كما جاء فى “سير أعلام النبلاء”، وترك ابن برى حواشى على كتاب الحريرى. كذلك قام “ابن ظفر” بالتصدى له، وهو “محمد بن أبى محمد بن محمد بن ظفر الصقلى، توفى 565 هـ بحماة. أما شهاب الدين الخفاجى، توفى 1069 هـ، فقد تولى شرح الدرة، وراجع فيه الحريرى ما قرره من أوهام وأظهر الكثير منها على أنها صحيحة لا خطأ فيها. كما وضع “أبو منصور الجواليقى”، توفى 539 هـ كما ذكر ابن خلكان فى وفيات الأعيان، تتمة بدرة الغواص، سماه التكملة فيما يلحن فيه العامة، وغيرها من عديد الشروح.
أقول إن اللغة ليست حكرا على أحد، وإن الذى يزعم أن هذا التعبير أو ذاك خطأ، أو هذه الكلمة ليست فى محلها، أو من يتشدد فى اللغة، ويلزمنا بنمط دون نمط آخر، نقول له: عرفت القليل وجهلت الكثير، وهذا أبو القاسم الحريرى، وهو من هو فى اللغة، قد تصدى له ثلة من العلماء، يصوبون ما عدَّه خطأ؛ فمثلا قال أبو القاسم: ويقولون للمريض: مسح الله ما بك، بالسين، والصواب: مصح”، فرد عليه “ابن برى”، قائلا: الصواب مسح بالسين، وقد ذكره “الهروى” فى “الغريبين”، فقال: مسح الله ما بك أى غسله عنك وطهرك من الذنوب. وقال أبو القاسم أيضا:”قرأت الحواميم والطواسين، ووجه الكلام فيهما أن يقال: قرأت آل حم وآل طس”، فرد عليه الشهاب الخفاجى، قائلا: “الصحيح خلافه، فإنه ورد ما أنكره فى الآثار، وسمع فى فصيح الأشعار كقوله:
حلفت بالسبع اللواتى طولت .. ومائتين بعدها قد أمنت
وبمثانى ثنيت وكررت .. وبالطواسين التى قد ثلثت
وبالحواميم التى قد سبقت .. وبالتفاصيل التى قد فصلت”
ألا ترى أن الحواميم والطواسين ليست خطأ؛ إذ قد وردت فى الشعر الفصيح، ولهذا من ادعى أنها خطأ أوردنا له هذا الشعر، وهذه الأبيات مستشهد بها عند الجميع.
وكما ترصد اللغويون الأقدمون كتاب “درة الغواص”، كذلك الأمر مع كتاب “لغة الجرائد” لإبراهيم اليازجى، توفى 1906، فقد ترصده ورد عليه الأستاذ محمد سليم الجندى، بكتابه “إصلاح الفاسد من لغة الجرائد”، فمثلا يروى كثير من كتب الصواب اللغوى، أن هذه العبارة: هذا أمر هامٌّ، خطأ والصواب مهم، فيقول الشيخ اليازجى، “ويقولون: هذا أمرٌ هامٌّ بصيغة الثلاثى لا يكادون يخرجون عنها فى الاستعمال، والأفصح مهمٌّ بالرباعى، وعليه اقتصر فى الصحاح والأساس”. فرد عليه محمد سليم الجندى، قائلا:” قال فى القاموس والتاج: وهمَّه الأمر همًّا ومهمةً حزنه وأقلقه، وقال فى المصباح: وأهمنى فى الأمر بالألف أقلقنى وهمنى همًّا من باب قتل مثله، فقد جعلوا الثلاثى والرباعى متماثلين، ولم يذكروا أن أحدهما أفصح من الآخر. واقتصار الصحاح والأساس على صيغة لا يوجب أن يكون ما عداها غير صحيح أو فصيح”.
ولا ننسى المعركة التى كانت بين الأب أنستاس مارى الكرملى وأسعد خليل داغر، وكان الأب أنستاس يتعرض لبطرس البستانى صاحب محيط المحيط، وعبدالله البستانى صاحب البستان، وسعيد الشرتونى صاحب أقرب الموارد، فيقول:”وقد بيَّنا غير مرة أن هذه المعجمات الثلاثة منسوجة على منوال واحد والأغلاط متكررة فى جميعها..”، وهذا ما أغضب أسعد خليل داغر، وأخذ يخطِّئ الأب أنستاس فى بعض الكلمات، مثل:”عجزا وعجائز”، فيرى داغر أن الصواب “شيوخا وعجائز”، ومقالة داغر موجودة فى كتاب “أغلاط اللغويين الأقدمين” للأب أنستاس لمن أردا الاستزادة، ثم تدخل مصطفى جواد ليحكم بينهما..
إذن نقول ونحن مطمئنون إلى هذا القول: ليس من حق أحدٍ أن يخطِّئ أحدا، أو يزعم أنه على الصواب والآخرون على خطأ، فما تراه أنت خطأ غيرك يراه صوابا، فمثلا، “يخطى إبراهيم اليازجى ومحمد على النجار وزهدى جار الله، من يقول: أنف فلان العار، ويذهبون إلى أن الصحيح هو: أنف من العار”، والرد عليهم، ما أنشده حسان بن ثابت من شعر؛ حيث يقول: قسامة أمِّكُم إنْ تنسبوها إلى نسب فتأنفُهُ الكرامُ
وجاء فى القاموس المحيط: يأنف أن يضام، وجاء فى المحكم: أنفت فرسى هذا البلد”… إذن يصح أن نقول: أنف فلان العار، وأنف فلان من العار.
الخلاصة، أنه لا يجوز التضييق والتشدد فى اللغة، فما تراه خطأ يراه غيرك صوابا، فمثلا، بعضهم يخطِّئ من يقول: “الفترة الزمنية”، والصواب أن نقول: “المدة الزمنية”، ومن جانبى أرى أن الكلمتين صحيحتان، فالفترة تعنى المدة التى تقع بين زمنين أو نبيين، كما ذكر المعجم الوسيط، وقد تكون الفترة أفضل من المدة. كذلك يقولون إن الفعل سمَّى لا يتعدى بالباء ومثله تزوج، فالصحيح أن يقال: سميته محمدا، وتزوجت امرأة، لكن المعجم الوسيط قال: تزوج امرأة وبها، وفى القرآن الكريم “وزوجناهم بحور عين”، وكذلك سمى فإنها تتعدى بالباء أيضا ومنها أسمى، وذكر المعجم الوسيط أَسْمَى الشىء كذا وبكذا: جَعَله له اسمًا.
فلا داعى للتشدد لأنه ليس فى محله، فإذا كنت تعرف وجها فهناك أوجه عدة، أنت عنها غافل، والحجة تكون عليك لا لك، لأنك تجهل الكثير وتعرف القليل.