صراع الأجيال ودور الأسرة فى تأكيد فكرة ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر

بقلم/ د. رحاب عبد السلام 

إن التسامح فى الأسرة هو سلوك وممارسة وليس توجيهات تصدر من سلطة عليا هى الأب أو الأم، فالأب الذى يفقد آليات التسامح السليم مع زوجته وأبنائه يجب ألا يتوقع أن يخرج أبناؤه إلى المجتمع وهم يمتلكون قدرة على التسامح أو فهم الآخر، وأن قضية تعويد الأبناء على الحوار والمناقشة وتقبل الرأى الآخر لم تعد قضية ترفيهية، وإنما أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة العصرية فى عملية التنشئة والتعليم.

وما لم تستطع الأسرة القيام بهذا الدور المأمول منها فإن التسامح فى المجتمع سوف يُقتل فى مهده. ومن هنا، تأتي أهمية تناول مسئولية الأسرة نحو تنمية قيمة ثقافة الاختلاف.

إن التسامح لن يكون ذا تأثير واقعى ما لم يقترن بالاحترام المتبادل وبالاعتراف بالحق فى الاختلاف وبالتسليم بأن التنوع فطرة بشرية، وبأن السعى من أجل فرض نمط واحد فى الفكر والسلوك يصدم هذه الفطرة التى فطر الله الناس عليها، وبأن العدل هو أساس التعايش والقاعدة الصلبة التى يقوم عليها الأمن والسلام.

فقد لوحظ أن ما تعانيه البشرية اليوم من حروب وكروب ومن آفات ومن صراعات لا تنتهى سببها الثقافات المغلوطة التى تلقن للناس وتجعل البشر بعضهم أعداء لبعض ويكيد بعضهم ببعض، ويستعلى بعضهم على بعض.

ولو أن البشر لُقنوا ثقافة سليمة قوية لهدتهم من ضلالة وعلمتهم من جهالة، ولعلمتهم ثقافة الحوار بدل ثقافة الصراع، وثقافة المحبة بدل ثقافة الكراهية، وثقافة التنوع بدل ثقافة الانفراد، وثقافة الانقياد للحق بدل ثقافة المباهاة بالقوة.

ويتطلب هذا عرض نماذج مختلفة النماذج التى يوجد معها الفرد منذ الطفولة مثل أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء الذين غالباً ما يشبهوننا فى كل شيء حتى قد نتشابه فى بعض الخصائص الفيزيقية الخارجية. ولو ظل الفرد منحسراً داخل ذاته لا يعرف شيئاً عن الأنماط الثقافية الأخرى والأفراد المنتمين لديانات مختلفة ولديهم لغات ولهجات تحالف ما شاهدة، فقد تتسم شخصيته بالجمود وعدم القدرة على التسامح فى المواقف المختلفة. وقد يتولد لدى الفرد شعور بأنه الأفضل أو يتولد لديه الشعور بأن من هم مختلفون معه أقل منه، ومن ثم يجب أن تهدف أسس التنشئة الاجتماعية فى الأسرة والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام إلى ترسيخ مفاهيم التفاهم وتقبل الجماعات المختلفة عنصرياً ودينياً ونبذ مفاهيم التعصب والتميز والعنف والتهميش، لأن السلوكيات مرتبطة بهذه المفاهيم السلبية التى تعوق عمليات التنمية. فلا يمكن أن تنهض التنمية فى أجواء ترسيخ العنف والاضطهاد ضد من يمارسون حقهم فى التعبير عن آرائهم، وثقافة التسامح التى تدعو إليها أو ندعو إلى التمسك بها لكى تنقى الأجواء من هذه العقبات التى تحول دون تحقيق السلام والأمن الاجتماعى على المستوى الداخلى وكذلك الخارجى
فلا سلام ولا تقدم بدون تسامح.

فالله عز وجل يخبرنا بأن من آياته ونعمته على البشر أن خلقهم متعددين ومختلفين فقال (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).

إن هذا التعدد والاختلاف لا يكون داعياً للتباعد ولا حافزاً للتعارك والصراع، وإنما هو أدعى للتعارف وكيف يتم التعارف، إن لم يتم الحوار، ثم إن الاختلاف والتعدد يدعو للحوار من حيث كونه تبادلا للرأى والفكرة بين الناس وذلك بغية العثور على قواسم مشتركة وحلول توفيقية فيما هو محل جدال واختلاف.

إن اختلاف الناس فى أفكارهم واتجاهاتهم وأهدافهم وآمالهم أنر اقتضته الحكمة الإلهية، وإن رحم الله التى وسعت كل شيء سوف تشملهم ما دام اختلافهم من أجل الوصول إلى الحق والصواب.

ولاختلاف الناس أسباب عديدة منها الظاهرة ومنها الباطن الخفى، ومنها ما يكون الدافع إلى معرفة الحقيقة على الوجه الأكمل والأوفق.

ومن أسباب الاختلاف بين الناس:
1- عدم وضوح الرؤية للموضوع من جوانبه.
2- تقليد الغير دون دليل أو برهان.
3- التعصب للرأى والحرص على المنافع الخاصة.
4- حب الشهر والتفاخر وإثبات الذات.
5- اختلاف العقول والأفهام وسيطرة بعض الأوهام.

اتساقاً مع مما سبق، يمكن القول إن مسئولية التربية هنا على الإيمان باختلاف البشر ووجوب احترام الآخر وقبوله رغم اختلافه ضرورة تفرضها نظريات التربية الحديثة عند الحديث حول ما يسمى (الفروق الفردية)، أو أثر البيئة أو الوراثة فى عمليات التعلم.

ومن هنا، فإن مؤسسات التربية ممثلة فى الأسرة والمدرسة وغيرهما مطالبة بأن تعمل على نشر قيمة الاختلاف وقبول الرأى الآخر واحترامه، فربما كان اختلاف الآراء ووجهات النظر عاملاً فى إثراء الثقافة من جهة، ومصدراً للإبداع والحيوية الفكرية من جهة أخرى.

ويزخر الواقع الراهن لثقافة مجتمعنا المصرى بنماذج عديدة تشير كلها إلى غياب ثقافة الاختلاف من المنظور الاجتماعى والتربوى، ولعل مرجع ذلك يتمثل فى الأسباب الآتية:

1- إن البعض لا يؤمن بالمساواة.2- رفض الآخر بوصفه إما جاهلاً أو غريباً أو عدوانياً أو طفلاً.
3- غياب روح التسامح وعدم التماس الأعذار للآخرين.
4- الاندفاع والتهور دون قراءة العواقب أو التفكير فى نتائج الأعمال.
5- التصور الخاطئ عن الرجولة باعتبارها قدرة (بدنية أو لسانية) وتجاهل العقل والمنطق.
6- الميل إلى سوؤ الظن والتعصب للأفكار الموروثة والجمود.
7- عدم استخدام العقل والحجة وترتيب الأمور، وعدم التحمس للمعرفة القائمة على الخبرة، وإيثار السهولة على الدخول فى نقاش مختلف الآراء.

وهكذا تبدو أسباب غياب ثقافة الاختلاف مدعاة لكثير من العواقب الوخيمة والروابط الممزقة والعلاقات الفاسدة وتفضى فى معظمها إلى فشل أى اتفاق، كما أنها تؤثر فى العمل بروح الفريق والميل للعمل الفردى.

أما العمل الجماعى فهو معرض دائماً للانهيار لأن الاختلاف هو سيد الموقف فى ظل غياب ثقافة التفاهم والحوار.

وتكمن أهمية الحوار التربوى فى أنه وسيلة إقناع، كما أنه بمثابة وسيلة لتغيير اتجاه الناشئة الذى يدفعهم إلى تغيير أو تعديل السلوكيات نحو الأفضل، لأن الحوار هو ترويض للنفس البشرية من أجل قبول الانتقادات الموجهة لها واحترام الرأى والرأى الآخر، وفى نفس الوقت هو احترام الآخرين وليس التقليل من شأن الشخص وأفكاره، هذا بالإضافة إلى أن الحوار يقوم بالدعم النفسى والاجتماعى فى التخفيف من مشاعر الكبت وتحرير الناشئة من الصراعات الداخلية والمشاعر العدوانية والمخاوف والقلق.


د. رحاب محمد عبد السلام رشوان
دكتوراه فى فلسفة الخدمة الاجتماعية
Comments (0)
Add Comment