وداع شهداء لقمة العيش والستر

كتب: محمد سليمان فايد

 

في صباحٍ رمادي لا يُنسى، وقعت واحدة من أشد الحوادث مأساوية على الطريق الإقليمي بدائرة مركز أشمون بمحافظة المنوفية، حين تحوّلت رحلة شقاء يومية إلى فاجعة جماعية. ميكروباص صغير يحمل 18 فتاة وسائقًا من أبناء قرية “السنابسة” كان في طريقه إلى العمل، قبل أن تصطدم به شاحنة نقل ثقيل (تريلا) وتحوّله في لحظة إلى كتلة من الصاج المحطم والأجساد الهامدة.

وقعت المأساة صباحًا، حين كانت مجموعة من الفتيات العاملات باليومية بإحدى المزارع، في طريقهن إلى عملهن عبر “ميكروباص الوردية” المعتاد. فجأة، وأثناء سيرهم على الطريق الإقليمي، انحرفت سيارة نقل ثقيل بجنون من الاتجاه المعاكس، صعدت فوق الميكروباص، و”فرمته” تمامًا تحت عجلاتها. صرخات الفتيات – البسيطات، الكادحات، الغلابة – لم توقف الموت، ولم تردع الحديد المنفلت. لم تكن هناك فرصة للنجاة.

 

المشهد كان صادمًا، لا يُحتمل، السيارة تحطمت بالكامل، والأجساد تناثرت بين الحطام، فيما توقفت الحياة على جانب الطريق. كثير من الفتيات لفظن أنفاسهن الأخيرة في لحظتها، والباقيات فارقن الحياة في طريقهن إلى المستشفى.

السائق، الذي اعتاد أن يصحبهن ويعيدهن كل يوم، مات هو الآخر وسطهن، وكأن الرحلة لم تكتمل إلا برفيقها الأخير.

 

هؤلاء الفتيات لم يكنّ سوى بنات بسيطات، تتراوح أعمارهن بين 15 و22 عامًا. طالبة في مدرسة،او مخطوبة تُجهز لفرحها وتشترى اجهزة باقساط يومية العمل، أخت تُعيل أسرتها، وأخرى تحلم فقط بستر يومها. خرجن قبل الشروق بأحلام صغيرة، لم يحملن أكثر من أكياس بلاستيكية بها بعض الزاد، وقلوب أمهات تُودعهن على عتبة الباب كل صباح. لكنهن لم يعدن أبدًا.

القرية استقبلت الخبر بذهول لا وصف له.وفي اليوم التالي، خرجت جنازة جماعية من أكبر الجنازات التي شهدتها محافظة المنوفية. آلاف المشيعين من القرى المجاورة، احتشدوا بعد صلاة الجمعة، ليودعوا 19 نعشًا أبيضًا، مصطفًا في ساحة المسجد، كأنها صلاة وداع أخير لوطن يخذل أبناءه الفقراء.

لم يكن في الجنازة صراخ، بل وجع صامت يشق القلوب.
أمهات فقدن القدرة على الكلام، آباء يدفنون بناتهم بأيديهم، وزملاء الطريق يجهشون بالبكاء، لا يفهمون كيف ينتهي الرزق بالموت، والكدح بالنهاية.

ما جرى لم يكن حادث سير عابر، بل جريمة متكررة اسمها “الإهمال”، مركبات متهالكة، سائقو شاحنات يقودون لساعات طويلة دون فحوصات أو رقابة، وفتيات عاملات بلا حماية، تنصف تعبهن ولا يوفر لهن وسيلة نقل آمنة.
ويبقى التساؤل من يحمي بناتنا العاملات باليومية؟
من يحاسب تريلا دهست 18 حلمًا دفعة واحدة؟

هؤلاء الفتيات لسن مجرد أرقام في سجلات وفيات، ولا حكايات مؤلمة تنتهي بالموت.

هن شهيدات لقمة العيش، شهيدات الغُبن، شهيدات التقصير الحكومي والرقابة الغائبة. خرجن في فجر الوطن بأمل، فعدن إلى الأرض بأجساد بلا حراك، وقلوب لم تُكمل الحلم.

Comments (0)
Add Comment