تلك الرائحة.. كيف تعود ؟ (بقلم: محمد ناجي المنشاوي)

تلكم الرائحة تسكن الروح، وتنطبع في العقل، وتلاصق الذكريات ماحيا من عاشها، إنها رائحة القرية المصرية فيما قبل عصر الانفتاح الاقتصادي الشؤم وما جره على مصر على من كوارث طالت كل جنبات حياة المصرية، ومازالت فاعلة فينا بصورة أكثر وحشية وضراوة.

ليس ذلك مجرد حنين عاطفي عابر إلى ما كانت عليه قرانا، بل رغبة عارمة في استعادة بعض مما كانت عليه قرانا من نعيم مقيم وخير عميم نابعين من جانبين: جانب معنوي حيث أخلاق أهل القرى التي كانت تتجلى في سماحة نفوسهم، وكرمها وشعورهم بالرضا والقناعة والتدين الفطري، بلا ادعاء أو زيف أو مظهرية سلفية وهابية مصطنعة.

فهناك روح التكافل والتعاون في المسرات والملمات، وما كان يتحلى به الشباب من عفة وشهامة واستقامة، وحرص متعلمي القرية على التنافس العلمي والقراءة والاطلاع، وكذلك ما كان عليه شيوخ القرى وعجائزها من الحكمة والوقار والتريث والأبوة الصادقة، وحنوهم على الصغير واحترام وحب وطاعة الصغير لهم، وكان استيقاظ الأسرة القروية وأذان الفجر بعد أن يسري صوت المؤذن فيهم بلا مكبرات صوت ولا شيء من هذا القبيل، فيقصدون المسجد في غبشة الفجر زرافات زرافات كبارهم وصغارهم، بينما نساؤهم يوقدن أفرانهن البلدية لإعداد الخبز.

بينما المزارعون وجوههم إلى الحقول بصحبة فؤوسهم وابقارهم، تلك الحقول التي كانوا يرتبطون بها ارتباط العاشق لمعشوقته ويقضون ساعات طويلة بين حرث وري وغرس ومقاومة لآفات الزرع، ويخصص كل فلاح مربعا محدودا من مساحة حقله ليزرعها نباتات متنوعة مشاعا للجميع دون مقابل كأن يزرعون الباميا والملوخية والباذنجان والفجل والجرجير والبصل الأخضر، وكم كانت سعادة القروي حينما يقبل ابن قريته ليحصل على قدر من هذه النباتات من حقله دون جشع.

ولم يعدم فلاحو القرية من وسائل بيئية ترفيهية في أوقات الراحة أو تزجية الفراغ، فيلعبون لعبة أشبه بالشطرنج مؤلفة من التراب والحصى تسمى (السيجة ) أما عندما يحل المساء وبخاصة في الليالي القمرية فيلعب صغارهم ألعابا عدة أشهرها (الاستغماية ).

وبعد انقضاء موسم جني القطن تقام أفراح الزواج بصورة جماعية يستقدمون لإقامتها فرقة من المغنين والعوالم من المدن المجاورة، كما كانت (المصطبة) أمام كل بيت هي مكان سهراتهم المفضل لتبادل الحكايات الممتعة البريئة أو مناقشة مشكلة من مشاكلهم ، ومن الندرة من يمتد به السهر إلى منتصف الليل، وكان صغار وشباب القرية يتجمعون في (جرن ) من أجران القرية لإقامة مسرحية ارتجالية دون علمهم بأن هذا الفعل التمثيلي هو فن معروف لدى الإيطاليين باسم (الكوميديا ديلارتيه).

أما الجانب المادي من معيشة القرويين تتلخص في عبارة واحدة ( خيرات الريف ) أو (القرية مصدر الإنتاج الغذائي الرئيس والأعظم ) لكل أهل مصر وكان إنتاجها من محاصيل زراعية وخضروات وفاكهة ولحوم وألبان تكفي المصريين جميعا بل وتفيض عن احتياجاتهم ما جعل مصر ذات اقتصاد زراعي غزير ومتنوع تتباهى به على كل الأمم شرقا وغربا.

أما انفتاحنا المشؤوم فقلب أوضاع البلاد والعباد رأسا على عقب وتحولت القرية إلى قرية مستوردة لكل غذائها من المدينة بامتياز لا ينكره الواقع فصارت صورتها مأساوية ووضعها الإنتاجي في غاية الضعف والتهافت.

لقد باتت قرانا لونا من المسخ المحزن ، متأثرة بما أصاب المجتمع المصري من تراجع في كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فلا هي قرية ولا هي مدينة، ولا فلاحوها فلاحون ولا مدنيون، لقد وقع أهلها في براثن التقليد التافه وسطحية التناول، وقشرة التحديث، علاوة على انهيار منظومة قيمها وأخلاقها الموروثة منذ آلاف السنين.

ولهذا يتوجب على الوزارات والجهات المعنية الالتفات بقوة إلى القرية لإعادة الكثير من حقائقها الموءودة، وذلك من خلال منهج علمي وخطط محكمة وجهود مخلصة.

ومن المقترح: جمع الفولكلور القروي من أغان ومووايل وحكايات أسطورية وبثها عبر برامج التلفاز وأعماله الدرامية وتشجيع مراكز الشباب التي رانت عليها أكوام التراب وإعادة إحيائها لتضطلع بدورها القديم رياضيا وثقافيا واجتماعيا لانتشال صغار القرية وشبابها من بؤر الإدمان والتطرف الديني والجريمة وتعيد ما كانت تقوم به من مسابقات مسرحية في موسم الصيف فكم من نجوم مصر وكتابها ومفكريها خرجوا من ربوع تلك القرى.

ويجب على وزارتي الزراعة والتنمية المحلية دعم المشروعات الريفية الصغيرة وتشجيع ربات البيوت على العودة إلى الإنتاج الداجني، والإنتاج الحيواني ومايتصل به من لحوم والبان وان يعود كل بيت ريفي إلى (فرنه ) الخاص لإنتاج الخبز ووضع خطة لتشجير القرية داخليا وتحويطها بسياج من الأشجار المثمرة وغير المثمرة وأن تعود القرية إلى شيوخها وتكوين مجلس حكماء يستشار في أمور القرية وحل المنازعات بين أهلها وضبط إيقاع سلوك المنفلتين والمتمردين فيها، ورعاية فقراء القرية وأيتامها.

Comments (0)
Add Comment