في مجتمعاتنا الشرقية يعاني المريض النفسي من نظرة المجتمع السلبية تجاه حالته ومرضه النفسي، والتي تجعله يخشى من العلاج، أو أن تقوم أسرته بمنعه وحبسه بالمنزل على اعتبار أن مرضه وصمة عار داخل أسرته، وساعد على ذلك وسائل الإعلام والمسلسلات والأفلام التي أظهرت المريض النفسي على أنه مجنون ويؤذي الآخرين، ورسخت مفاهيم خاطئة تجاه المرض النفسي. وفى التقرير التالى نستعرض أهم المفاهيم الخاطئة عن المرض النفسانيين وتصحيحها مع الدكتور فائق عبد الرحمن الزغاري، استشارى الطب النفسى وطب الإدمان، عضو جمعية الأطباء النفسيين الأردنية:
د. فائق عبد الرحمن الزغارى
يقول د. فائق الزغاري أن هناك العديد من المفاهيم الخاطئة بنيت على الخرافات وعدم المعرفة والجهل بطبيعة الأمراض النفسية والعلاج النفسي والتي أدت بالفرد داخل المجتمع العربي أن يحجم عن الذهاب إلى الطبيب أو المعالج النفسي، فيتردى وضعه النفسي ويتمكن منه المرض وتصبح حالته مستعصية، وأول ما يذهب إليه هو المشعوذين والدجالين والذين يدعون القدرة على شفاء الأمراض النفسية، ويتنقل من مشعوذ إلى آخر بغية أن يساعده في علاج حالته ولكن هيهات، رغم أن الذهاب إلى الطبيب النفسي في البداية يساعده في السيطرة على المرض ويوفر عليه الكثير من العناء.
من أهم هذه المفاهيم ارتباط الأمراض النفسية بالجنون: يعتقد الكثير من الناس بأن كل زوار العيادة النفسية هم من المجانين وكذلك الاعتقاد بأن الأدوية النفسية لا فائدة منها وأنها تسبب الجنون وان هذه الأدوية نوع من المخدرات وان تناولها يؤدي إلى الإدمان، والاعتقاد بأن الأمراض النفسية لا شفاء منها. إن هذه الاعتقادات تؤدي إلى التردد عند زيارة الطبيب النفسي والخجل من ذلك بل ربما الامتناع عن الإقدام عليه رغم الحاجة الشديدة إلى ذلك، ولكن من السهل مراجعة راق دجال أو مشعوذ ودون تردد. ونتيجة لهذه الأفكار والممارسات فان الناس يتأخرون في مراجعة العيادة النفسية حتى يستفحل المرض وتصبح عملية العلاج أطول. وعلينا أن نتذكر بأن المرض النفسي يتدرج من الاضطراب البسيط الذي يمكن علاجه بالإرشاد النفسي والطمئنة إلى الفصام العقلي شديد الاضطراب الذي يتحكم به دوائيا، فأمراض القلق والاكتئاب والوساوس والمخاوف والهستيريا واضطرابات النوم واضطرابات الأطفال وغيرها من الأمراض النفسية قابله للشفاء، وان هناك نسبه قليلة من الأمراض النفسية التي لا تشفى ولكن يتحكم بها من قبل الأدوية ، ولو نظرنا إلى الأمراض غير النفسية فإن الأمر لا يختلف كثيرا فهناك العديد منها يستمر طوال العمر مثل مرض السكرى، والضغط، وأمراض القلب ويحتاج المريض المصاب بها إلى تناول علاجه مدى الحياة.
لقد أثبتت التجارب العلمية بأن سبب الأمراض النفسية هو اختلال في مستوى النواقل العصبية في الدماغ وذلك نتيجة عدة عوامل منها تأثير الوراثة والبيئة والتربية وعوامل عديدة أخرى، والمرض النفسي مثله في ذلك مثل الأمراض العضوية الأخرى له أساس عضوي، وانتقال الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس الطبيعة المرضية لتلك الأمراض. والتجارب العلمية مدعومة بالخبرات العملية والمشاهدة اليومية أثبتت نفع الأدوية النفسية في علاج الأمراض النفسية.
وتختلف العلاجات النفسية عن غيرها بأنها تحتاج إلى عدة أسابيع حتى يبدأ مفعولها، وقد يستمر العلاج لفترات قد تمتد إلى أشهر أو أكثر ويعتمد التحسن على مدى استمرارية المريض على العلاج . وللارتقاء بالمستوى الصحي والنفسي للفرد داخل المجتمع العربي عليه أن يتخلص من هذه المفاهيم الخاطئة وأن يبني قناعاته على أسس علمية ثابتة وليس على الخرافات والشائعات.
هذه الأفكار الخاطئة أوجدت الاتجاهات السلبية للمرض النفسي من قبل العائلة في حالة إصابة أحد أفرادها به: فإذا أجرينا مقارنة متعلقة بموقف الأهل في حالة الإصابة بالمرض العضوي والإصابة بمرض نفسي نجد أن الأهل في الحالة الأولى يستدعون الطبيب بشكل فوري، وينفذون تعليماته بدقة، ويعطونه ثقة كبيرة، ويقبلون بتشخيصه، ويكون المرض مناسبة اجتماعية للزيارات، وتسود الأجواء مشاعر التعاطف مع المريض ورغبة في متابعة علاجه حتى الشفاء التام. أما في حالة المرض النفسي فنجد الأهل يترددون كثيرا قبل مراجعة الطبيب، ويحاولون التهرب من تنفيذ تعليماته، ويفضلون مراجعة أكثر من طبيب، ويحيطون التشخيص بالتشكيك، ويحملون عدائية غير ظاهرة للمعالج، كما أنهم يحاولون أخفاء أنباء المرض حتى عن المقربين، ومحاولة إنهاء العلاج بأقصى سرعة ممكنة (حتى قبل أوانه)، كما يحملون مشاعر هجومية نحو المريض ويوجهون انتقادات مكثفة إليه.
من العوامل التي ساهمت في ترسيخ المفاهيم الخاطئة هي وسائل الإعلام: لقد تعودنا من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والرواية العربية تقديم صورة مشوهة عن العلاج والمعالج النفسي مما جعل هذه المفاهيم تتغلغل في وجدان الناس ومن الصور المشوهة التي قدمت في الأفلام والرواية العربية شخصية الطبيب النفسي فتظهر الطبيب النفسي وكأنه غير مستقر نفسيا. ومنها أيضا طريقة العلاج النفسي وتنفيذها والمثل الواضح على هذا هو العلاج بالاختلاج الكهربائي والذي يصور على أنه نوع من العقاب، ويعرض بطريقة تثير اشمئزاز المشاهد، فنجد المريض يصرخ ويتألم وكأن الذي يحدث هو تعذيب للمريض وليس علاج له، وإظهار الممرض النفسي بأنه شخص قاسي عديم الرحمة، عابس الوجه، عنيفاً في حديثه وأسلوبه وتعامله. تركز وسائل الإعلام على عرض المرضى النفسيين ذوي الحالات المزمنة وغير القابلة للشفاء، وهذه الأمراض تحدث بنسبة قليلة مقارنة بالأمراض النفسية الأخرى والتي تعالج ويشفى منها تماما.
ولكي نتخلص من موروث سنوات طويلة من المفاهيم والمعتقدات الخاطئة عن الطب النفسي، على وسائل الأعلام والعاملين في مجال الصحة النفسية أن يقوموا بدورهم لتحسين الصورة المشوهة عن الطب النفسي، والمساعدة في توصيل المعلومات الصحيحة عن الأمراض النفسية وطرق العلاج النفسي، ونحن نتوق إلى ذلك اليوم الذي تصبح فيه زيارة العيادة النفسية أمرا عاديا وان نتخلص من الخوف والخجل والوصمة السلبية.
إن الهدف الذي نسعى إليه هو الارتفاع بمستوى قدرات الفرد ليعيش حياة أفضل ويساهم في بناء المجتمع بأقصى طاقاته. ولتحقيق هذا الهدف على الفرد داخل المجتمع العربي أن يتخلص من هذه المفاهيم، وأن يبني قناعاته على أسس علمية ثابتة وليس على الخرافات والشائعات.