حب القراءة نعمة، والكتاب هو الصديق الوحيد الذي يمكن أن تُفرّغ فيه شحنة غضبك، والقراءة تساعد في راحة الذهن والاسترخاء وتريح الأعصاب وتخفف من التوتر والضغط النفسي. وأن تزخر مكتبتك بالكتب يعني أن تمتلئ حياتك بالسعادة، فالكتاب عندما تعشقه لا يحب أن تهجره طويلاً، لأنه يحب أن يكون أثيراً ومُقرباً لديك.
لكن في هذه الأيام، فالقليل من الناس هم أولئك الذين يتخذون الكتاب رفيقاً بسبب غزو وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، وتلاشى كثيراً حب القراءة والكتاب بين الناس. الفيس بوك وتويتر وسناب شات وغيرها أصبحت تجذب الكثيرين، وسيطرت أقوال وأفعال وحياة المشاهير على أفكار وعقول كثير من الشباب ومحبي الظهور والشهرة.
يقول المفكر الفرنسي جان جاك روسو: (بفضل الكتب التي كنت أقرؤها، ملأت قلبي بمشاعر أنبل من تلك التي كان محيط حياتي يوحي لي بها).
والكتاب كما يقول الجاحظ: (وعاء مليء علماً، وظرف حيي ظرفاً.. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والناصح الذي لا يستزيدك).
ويقول الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون: (بعض الكتب وجدت لكي تتذوق، وأخرى لكي تبتلع، وبعضها الآخر لكي يُمضغ ويُهضم. لهذا بعض الكتب تُقرأ بعض أجزائها، وأخرى تُقرأ لكن دون فضول، وبعضها الآخر يجب أن تُقرأ كلها بعناية واهتمام).
الكتاب أكبر “صديق”
على الرغم من سهولة الحصول على الكتاب هذه الأيام، بسبب غزو وسائل التواصل الاجتماعي “الإنترنت”، لكني أحد الذين يفضلون القراءة عن طريق الكتاب الورقي، وكم حاولت مرارًا وتكرارًا الاستغناء عن الكتاب المطبوع، لكني أخفقت فى ذلك، ولم أجد متعة على الإطلاق فى قراءة الكتاب الإلكترونى بالرغم من السرعة في قراءته، إلا أنني أرى فيه عيوبًا كثيرة، منها نسيان ما قرأته، وإصابتى بدوار ذهني، فضلا عن المتاعب الصحية التى تسببها القراءة عن طريق الكمبيوتر كالصداع وضعف النظر، وحتى الآن لم يسعفني الحظ لقراءة كتاب كامل على pdf، رغم محاولة إقناع نفسي بالاستغناء عن الكتاب الورقي، من ناحية ترشيد النفقات، فشراء الكتب يُكلف الكثير من المال التي نحن فى أشد الاحتياج إليه فى وقتنا الحالي الذي ترتفع فيه الأسعار بشكل مزمن.
وبالرغم من ذلك، صار الكتاب الورقي رفيقي، الذي لم أستغنى عنه أبدًا، وفى كل يوم أذهب إلى القاهرة، حيث مقر عملى، لابد من مروري على باعة الكتب، وإذا وصلت مبكرًا أمضيها بحثًا عن عنوان يلفت نظري، أو كاتب قد لا أعرفه، وأسعد عندما أجد كتابًا تمنيت أن يكون موجودًا فى مكتبتى، ولحسن حظي أنه من كثرة ترددي على باعة الكُتب أصبحت هناك ثقة تربطني بهم، ولو أخذت كتاب وليس معي ثمنه فيكون الاتفاق عن رضا من البائع على السداد فيما بعد.
والسؤال الذى يطرح نفسه باستمرار، هل هناك وقت كاف لقراءة هذه الكتب؟ فأنا أغلب وقتي أقضيه ما بين السفر من القاهرة مقر عملي إلى بلبيس مقر إقامتي، وأعود منهكًا من تعب اليوم، ولهذا، سيكون من المستحيل قضاء الليل فى القراءة؟ فطبيعة العمل في زمننا جعلنا نلهث وراء لقمة العيش. لذا، أخشى من تراكم وزحمة الكتب في المنزل المقروء منها وغير المقروء لأن كثرتها يمكن أن تعوق الحركة، فأنا لم أقرأ منذ فترة، وأسأل نفسى: هل أصبحت ممن يدمنون شراء الكتب ولا يقرأونها؟!
وتذكرت حوار مع صديق لى، بأنه إذا مرَّ على مكتبة من المكتبات أو باعة كتب على الأرصفة، سارع بالشراء، وحمل كمية لا بأس بها منها، لكنه لا يطيق صبرًا على قراءة كتاب ما؟ وهنا كشف لى سرًا، هو المواظبة على شراء الكتب لتكوين مكتبة فقط، لكنه لم يقرأ إلا عناوينها، ثم عكف عن المرور على المكتبات. وكان يسألنى عندما يرى معى كتب: هل تقرأ كل هذا؟ وكنت أرد عليه بالإيجاب: نعم، أقرأ ما أحتاج إليه، وأترك الباقى إلى وقت آخر.
لماذا نشترى ولا نقرأ؟
تذكرت كلام صديقى بأنه يشترى ولا يقرأ، فقررت ألا أشترى كتابًا إذا لم يتوفر عندي وقت لقراءته، وحرصت على الذهاب مباشرة إلى العمل، حتى لا أمر على باعة الكتب، وقررت ألا آخذ من النقود إلا ما يكفى لاحتياجاتى اليومية، أى أنني قمت بوقف كل السبل للحيلولة دون شراء الكتب، ولكن المغريات أكبر من احتياطاتى، فباعة الكتب قريبين جدًا من مؤسسة الأهرام بـ(ميدان الإسعاف)، فتشدنى العناوين، والأسعار رخيصة، والإغراءات قائمة، فأتصالح مع الكتب مرة أخرى، وأعود إلى سابق عهدى، كأن شىء لم يحدث، وأشترى كل ما يروق لى، وأحيانا قد أتمرد على عملى لإشباع هواياتى وثقافتى المفضلة.
إذن مشكلتى تكمن فى حب القراءة واقتناء الكتب، لكن المعضلة فى عدم توافر الوقت، ولكني أعشق القراءة، وأحيانًا مشكلتى تتمثل فى القراءة بالشكل الذى لا يرضيني، وهنا أتذكر ما نقله المقَّرِى فى كتابه “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، من حرص أهل الأندلس وتحديدًا قرطبة على اقتناء الكتب، لا لطلب العلم ولكن لطب الوجاهة الاجتماعية، فيقول المقَّرِى عن قرطبة وأهلها: “وهى أكثر بلاد الأندلس كتبًا وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة حتى إن الرئيس منهم الذى لا تكون عنده معرفة يحتفل فى أن تكون فى بيته خزانة كتب وينتخب فيها ليس إلا لأن يقال فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلانى ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذى هو بخط فلان قد حصله وظفر به”، ويروى المقَّرِى قصة طريفة، تبين مدى الحرص على حيازة الكتب مهما كان السعر، فيقول: “قال الحضرمى: أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب كان لى بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح (أى تجليد حسن)، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد فى ثمنه فيرجع إلىَّ المنادى بالزيادة علىَّ إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا، أرنى من يزيد فى هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوى، قال: فأرانى شخصًا عليه لباس ورياسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض فى هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده، فقال لى: لست بفقيه ولا أدرى ما فيه، ولكن أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقى فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير، فقال الحضرمى: فأحرجنى، وحملنى على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك، يعطى الجوز من لا عنده أسنان، وأنا الذى أعلم ما فى هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندى قليلا، وتحول قلة ما بيدى بينى وبينه”.
وتأمل فيما رواه المقَّرِى، فالرجل الثرى يطلب الوجاهة والأبهة والمكانة الرفيعة ليس عن طريق أمواله وهو الغنى وإنما عن طريق ملء خزانته بالكتب، وليس أى كتاب يشتريه بل له مواصفات عند شرائه منها أن يكون حسن الخط وجيد التجليد، ولا يهم معه المضمون أبدا.
الأمر الثانى أن من كانت صنعته الاشتغال بالكتابة، فإنه يكون رقيقًا مُعدما بائسًا مُشردًا، يعيش فى ضنك وفقر مدقع، صحيح أن ثمة بعض الكُتاب من يعيش فى حالة رغدة، وينعم بالاستقرار المادى، لكن هؤلاء قلة قليلة، ولا يصح أن نتخذها مقياسا ومعيارا، وصدق المتنبى حينما قال:
ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله .. وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم
وهو ما يصيب الإنسان بالهم والحزن، ما يؤدى إلى اعتلال صحته وفساد مزاجه وحاله، فيقول المتنبى:
وإذا قرأت نصًا فيه تحفيز وتشجيع على القراءة، أعطانى ذلك دفعة معنوية على حب القراءة والتحمس لها، ومن ذلك ما رواه ابن النديم فى كتابه “الفهرست” عند ترجمته للجاحظ: “حدثنا محمد بن محمد عن أبى العباس محمد بن يزيد النحوى، قال: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة، الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضى. فأما الجاحظ، فإنه كان إذا وقع بيده كتابًا قرأه من أوله إلى آخره أى كتاب كان. وأما الفتح، فإنه كان يحمل الكتاب فى خفه، فإذا قام من بين يدى المتوكل ليبول أو ليصلى، أخرج الكتاب فنظر فيه، وهو يمشى حتى يبلغ الموضع الذى يريده ثم يصنع مثل ذلك إذا رجع إلى أن يأخذ مجلسه. وأما إسماعيل بن إسحاق، فإنى ما دخلت عليه قط إلا وفى يده كتاب ينظر فيه، أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه”.
ويتكرر هذا الكلام عند حديثه عن الملوك والكُتاب والخطباء، وتحديدا كلامه عن “الفتح بن خاقان” صاحب أمر الخليفة المتوكل.
وكان يعجبنى شعار الجاحظ فى طلب العلم: “إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخِر شيئا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح”، وفى هذا إشارة إلى قول عنترة بن أبى شداد فى معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم .. أم هل عرفت الدار بعد توهم
أى لم يترك الشعراء شعرا إلا قالوه، فكأنهم لم يتركوا شيئا يقال لمن يأتى بعدهم.
ويروى ياقوت الحموى فى معجم الأدباء خبرا عن تعلق ابن الأعرابى بالكتب وشغفه بها، وابن الأعرابى كان شيخا من شيوخ مدرسة الكوفة اللغوية، وقال عنه الدكتور يوسف خليف فى كتابه “حياة الشعر فى الكوفة” إنه كان كالفراء يتمتع بذاكرة قوية، فقد كان يملى على الناس من حفظه، ويقال عنه إنه ما رؤى فى يده كتاب قط من شدة حفظه وتمكنه، فيقول ياقوت: “عن أبى عمران قال: كنت عند أبى أيوب أحمد بن محمد بن شجاع، فبعث غلامه إلى أبى عبد الله بن الأعرابى يسأله المجىء إليه، فعاد إليه الغلام، فقال: قد سألته ذلك، فقال لى: عندى قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربى معهم أتيت، وقال الغلام: وما رأيت عنده أحدا، إلا أنى رأيت بين يديه كتبا ينظر فيها، فينظر فى هذا مرة وفى هذا مرة! ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أيوب: إنه ما رأى عندك أحدا، وقد قلت له: أنا مع قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي أتيت! فأنشد ابن الأَعرابى :
لنا جلساء ما نمل حديثهم .. أَلِبَّاءُ مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى .. وعقلا وتأديبا ورأيا مسدَّدا
فلا فتنةٌ تُخشَى ولا سوء عِشْرة .. ولا نتقى منهم لسانا ولا يَدَا
فإن قلتُ أموات فَلَسْتَ بكاذب .. وإن قلتُ أحياء فَلَسْتُ مُفَنّدَا