أزمة الكتاب كما يراها محمد عبدالله عنان ومصير الإنتاج العقلي في العصر الحديث
بقلم/ حسين السيد
مقال أعجبني كثيرًا وكذلك المحتوى .. إلا أنني أحببت أن أشارككم الرأي عن أهمية قراءة الكتب التي هي من أسْمى وأمتع وسائل التربية والتهذيب والرياضة العقلية.
نعيش منذ عقود طويلة سلسلة من الأزمات، ولعلّ أخطر هذه الأزمات أزمة الانحطاط الثقافي الذي يعاني منها مجتمعنا، والسؤال: هل نتصور بأن الكتاب “خير جليس فى الأنام” يعانى من أزمات؟ هل يمكن أن نتخيل أن الصحف، والمجلات، والراديو، والسينما، والرياضة كلها عوامل تعوق دون انتشاره؟ وأراها عوامل تساعد على اقتناء الكتب، أما العوامل الحقيقية فهى التى ظهرت فى عصرنا الحالى المتمثلة في الإنترنت والفيسبوك والقنوات الفضائية..الخ، وما لبس أن هجر الكتاب وعزف عن القراءة، فتاه وضاع وأصبح مُكتفياً بالإقبال على ثقافات الآخرين التى لم تزده إلا ضعفا ومذلة. ولكن، في الحقيقة أن هناك بعض العوائق والمشكلات التى تواجه صناعة النشر وتؤثر بالتالى على ارتفاع تكلفة طبع الكتب نظرا لارتفاع أسعار الورق والأحبار وغيرهما، ما أدى إلى إغلاق كثير من دور النشر، وهذا إنذار خطير عن حالة التدهور الثقافى، فمن هذا المجنون الذى سينفق على شراء كتابٍ ما مبلغًا لا بأس به، الأمر الذى يجعل من اقتنائها مسألة ترهق ميزانية الأسرة، وخاصة إذا تعرضنا مؤخرا لمحن لم نعهدها قبل مثل انتشار الأوبئة؟!
-
وبينما كنت أقرأ مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات، فإذا بى أجد نفسى أمام مقال للكاتب “محمد عبدالله عنان”، يتحدث فيه عن أزمة الكتاب ومصير الكتب، وتملكتنى الدهشة والذهول، ليس لأنه كتبَ عن أزمة الكتاب، ولكن لوقت صدور المقال؛ إذ صدر أغسطس 1934.
وقلت فى نفسى: أى أزمة تلك التى يتحدث عنها “عنان” فى هذه المرحلة المبكرة من حياتنا الثقافية؟ وهل توجد شواغل تمنع الاهتمام بالقراءة فى ذاك الوقت؟ فما أكثر الفراغ الذى يمكن أن يقضيه الإنسان فى القراءة والاطلاع، وشرعت فى قراءة المقال، لأرى أزمة الكتاب سنة 1934!
-
يتحدث “عنان” عن أثر الحرب العالمية الأولى فى تطور الذوق الأدبى، أو بعبارة أخرى، كما يقول: في قيمة الكتب وفي مركز القراءة وميول القراء، ويؤكد أنه “ليس من ريب في أن الكتاب قد فقد اليوم كثيرا من سحره وقيمته المادية والاجتماعية، وقل الإقبال كثيرا على اقتنائه وقراءته”، وبدأ يعدد أسباب هذا التراجع من وجهة نظره، وهى:
– أول الأسباب التى ذكرها تعود إلى الصحافة، وهذا العصر كان يمتلئ حقا بالصحف، إن اختفت صحيفة ظهرت أخرى، وعلى الرغم من انتشار الأمية بين الناس آنذاك، فإن المرء يدهش حقا عندما يعلم بهذا الكم الكبير من الصحف، فسحبت الصحافة البساط من تحت يدى الكتاب، فيقول “عنان”: “الواقع أن الصحافة أول وأقوى العوامل الجديدة التي أثرت فى مركز الكتاب ومدى انتشاره”.
ويتفرع عن وجود الصحف، سبب آخر وهو الصحافة الأدبية، التى كانت تُخصصها الصحف الكبرى مثل “السياسية الأسبوعية” التى كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين، وكذلك جريدة “البلاغ الأسبوعية” الصادرة عن حزب الوفد، ومجلة “الرسالة” للزيات، ولا ننسى مجلة “الهلال” لجورجى زيدان، و”أبولو” لأحمد زكى أبو شادى، أيضا إصدار “المجلة الجديدة” لصاحبها سلامة موسى، وغيرها من الإصدارات التى رآها عقبات تحول دون انتشار الكتاب كما يجب، فيقول عنها: “والصحافة الأدبية هي بلا ريب أشد خصوم الكتاب ومنافسيه، وأشدها تأثيرا في مركزه ومدى انتشاره”.
ويعقد مقارنة بين سعر الكتاب والصحيفة، فلاشك أن الصحيفة أو المجلة أرخص كثيرا من سعر الكتاب لأنها يمكن أن تعتمد على الإعلانات ومن ثم تغطى تكلفتها، ولهذا سيقبل القارئ على اقتناء المجلة ويترك الكتاب، وخاصة أن المجلات تقدم كل شىء بين دفتيها، فلن يتسرب الملل إلى القارئ، ويقول “عنان” عن ذلك:” أضف إلى ذلك المسألة الاقتصادية، أعنى مسالة الثمن، فالصحف والمجلات تعرض بضاعتها الأدبية على الجمهور بأثمان بخسة يستطيع أن يؤديها الملايين، معتمدة فى ذلك على كثرة انتشارها وما تجنيه من أجور الإعلانات”.
– ومن أسباب عدم الإقبال على الكتاب أيضا، السينما والراديو، فهاتان الوسيلتان صارتا من أشد خصومه، لكن هل كانت الإذاعة التى انطلقت رسميا 31 مايو سنة 1934، أى قبل كتابة مقال “عنان” بشهرين فقط، لتستطيع أن تصرف القراء عن اقتناء الكتب فى مدة شهرين فقط؟! هل ظهر أثرها سريعا إلى هذه الدرجة؟!
أما عن السينما، فلا أعتقد أنها فى ذلك التوقيت تشغل بال الناس، فقد كانت تحبو آنذاك، ووقتها أنتج فيلم “ياقوت” لنجيب الريحانى، لكن على العكس من ذلك، كان المسرح فى عشرينيات القرن الماضى فى أوج نشاطه، حيث كانت تنتشر الفرق المسرحية بكثرة، فثمة فرق الريحانى والكسار ويوسف وهبى وفرقة إخوان عكاشة التى كان لها باع طويل فى المسرح، وعانى منهم توفيق الحكيم الأمرين، كما ذكر فى سيرته الذاتية، وأغلب هذه الفرق كان يعتمد على تمصير الروايات أو المسرحيات التى يقتبسونها.
وفى ذلك يقول “عنان”: “وقد غدت السينما والراديو من أشد خصوم الكتاب، ففى السينما تلخص أو تُمسخ أمهات القصص حتى يمكن إخراجها فى صور تلائم الجمهور”.
وتحدث “عنان” عن الطغيان السياسى الذى كان سائدا فى عصر، حيث تشيع النظم الدكتاتورية فى ألمانيا وإيطاليا وتركيا وروسيا، وهذا الطغيان لا ريب أنه يؤثر فى الحركة الفكرية ويواجه الكتاب أشد المخاطر والأزمات، وحيثما تنعدم حرية الفكر تخبو حركة التأليف الحر.
– وآخر سبب ذكره “عنان”، يتمثل فى طبيعة العصر وروحه، حيث إنه عصر السرعة والرياضة، وقد بدأت تنتشر النوادى الرياضية، كالنادى الأهلى ونادى المختلط الذى أسسه البلجيكى جورج مرزباخ وغيرهما من النوادى، ويصعد منتخب مصر إلى كأس العالم بإيطاليا سنة 1934 لأول مرة، فشغف الشباب شغفا كبيرا بالرياضة، وصرفتهما عن حب القراءة التى تتطلب التؤدة والتريث لهضم الأفكار واستيعابها، وبالعموم فإن روح العصر التى نمت فيها السينما وازدهر المسرح وظهرت الإذاعة، إضافة إلى الأمية التى تسود بين الشعب، كل هذا من شأنه ألا يشجع على القراءة فضلا عن اقتناء الكتب،
يقول “عنان”: “هنالك أخيرا روح العصر، فعصرنا عصر سرعة ورياضة.. وهذه الروح السيئة بلا ريب من أقوى العوامل في صرف أنظار الشباب عن الكتاب”.
– وفى الأخير، يقرر “عنان” أن الكتب تواجه أزمة كبيرة، يجب أن نتصدى لها، لكنه يؤكد أن الكتاب لا يمكن أن يختفى أو يموت، فيقول: “الخلاصة أن الكتب تواجه أشد أزمة عرفتها فى العصر الحديث، وقد تتفاقم هذه الأزمة ويزداد ذيوعها كسادا، ولكن الكتاب لا يمكن مع ذلك أن يختفى أو يموت”.
– هذه هى العقبات التى تحول دون انتشار الكتاب كما يراها الأستاذ محمد عبدالله عنان، أو الأزمات التى واجهها الكتاب سنة 1934، فماذا لو كان حيا بيننا الآن فى منتصف 2022، ماذا سيقول؟ لقد انصرف الناس عن السينما ولم يعد فيه مسرح أصلا، واختفت أو تكاد المجلات الثقافية، وهاهى مجلة عريقة مثل “الكواكب” لم تعد تصدر ورقيا، ورويدا رويدا ستختفى الصحافة الورقية، وحلت وسائل حديثة مكان الوسائل التقليدية، أما عن روح العصر فهى سريعة تخطف الأنفاس، وأهم هذه الوسائل وأخطرها “الفيس بوك” الذى يلتهم الوقت، ناهيك عن المنجزات الأخرى، اليوتيوب وتويتر.. كل هذا لا يخلق جوا للقراءة.
– ولا ننسى غلاء المعيشة، التى تتطلب من الفرد البحث عن فرصة عمل ثانية وثالثة، ليجد قوت أسرته، إضافة إلى ارتفاع سعر الكتاب، ولا ننسى مواقع البى دى إف التى سهلت الأمر على محبى القراءة، ولا نغفل انعدام الموهبة لدى الكُتاب الحاليين، فكثير منهم يعتمد على القص واللزق، والأفكار أصبحت مكررة ومعادة، كل هذا أدى إلى الانصراف عن شراء الكتاب.
– وإنه لأمر يثير الدهش والعجب، أن يكون عصر فيه طه حسين والعقاد والرافعى والمازنى وهيكل وشوقى وحافظ ومدرسة أبولو .. عصر لا يمتاز إلا بوجود كل هذه الكوكبة من الأدباء وتنعدم فيه وسائل التكنولوجيا الحقيقية التى يمتاز بها عصرنا، وعلى الرغم من هذا فإن الكتاب يعانى من أزمات فى عصرهم، فماذا سيكون عصرنا نحن؟!
– يبقى أن نعرف أن المحامى “محمد عبدالله عنان”، واحد من الذين أحرص على اقتناء أعمالهم، فإن رأيت اسمه على كتاب ما سارعت بشرائه، وهو مؤلف غزير الإنتاج، فله موسوعته “دولة الاسلام في الأندلس”، وله أيضا “مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية”، و”مؤرخو مصر الإسلامية ومصادر التاريخ المصرى”، وهو الذى ترجم أطروحة طه حسين لدرجة الدكتور، “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية”.