في حياة الشعوب لحظات تختلط فيها البهجة بالتاريخ وتلتقي فيها الطقوس بالهوية ومن بين تلك اللحظات يبرز شم النسيم كأحد أقدم وأجمل الأعياد التي عرفها المصريون. فهو ليس مجرد احتفال موسمي بقدوم الربيع بل طقس عتيق حافظ عليه المصريون جيلاً بعد جيل كأنما هو عهد حب أبرموه مع الأرض والشمس والنيل. إنه يوم تتفتح فيه الزهور كما تتفتح القلوب، ويتحوّل الوطن كله إلى نزهة كبيرة في أحضان الطبيعة.
يأتي شم النسيم مع بداية فصل الربيع حيث تتفتح الزهور وتعتدل الأجواء فيشعر المصريون بنداء داخلي للخروج من البيوت والانفتاح على الطبيعة. هو ليس عيدا دينيا، بل طقسا احتفاليا يحمل في طياته معاني التجدد والأمل، لذلك يحتفل به المصريون جميعا بمختلف دياناتهم وخلفياتهم في مشهد نادر يجسد الوحدة والتنوع في آن واحد. إنه العيد الذي يلتقي فيه الجميع على مائدة مصر الوطن لا تفرقهم طقوس العقيدة بل تجمعهم طقوس الحياة.
تبدأ طقوس الاحتفال بشم النسيم في أول النهار حيث تتناول الأسر المصرية وجبة هذا العيد التي أصبحت تقليدا لا يغيب (الفسيخ والرنجة والبصل الأخضر والبيض الملون والملانة)، تلك الأطعمة ليست اختيارا عشوائيا، بل تحمل دلالات رمزية تعود إلى معتقدات فرعونية حيث كان البيض رمزا للخلق وبداية الحياة، والبصل رمزا للطاقة والحماية من الأرواح المؤذية، بينما تشير الأسماك المملحة إلى خصوبة النيل واستمرارية الحياة. وعلى الرغم من اختلاف الأزمنة ما زال المصريون يحرصون على إعداد هذه الأطعمة ذاتها في تجلٍ واضح للوفاء بالتقاليد والأصالة المصرية.
ينتشر المصريين في المتنزهات والحدائق والحقول وضفاف النيل حيث تخرج العائلات منذ الصباح الباكر لتقضي يوما في أحضان الطبيعة يحمل الأطفال الفرحة ويركضون وسط الخضرة تزين وجوههم نظرات الأمل وحب الحياة وتلوّن أيديهم البيض بالألوان الزاهية. شم النسيم يوم يعود المصري فيه إلى فطرته الأولى، حيث لا مكان للهموم ولا صوت يعلو فوق صوت الفرح. ما يميز شم النسيم عن غيره من الأعياد في مصر أنه عيد لا يرتبط بشعائر دينية أو مظاهر رسمية بل هو احتفال جماعي تلقائي تُمارس فيه الحرية والبساطة والجمال. كما أن استمرار الاحتفال بشم النسيم عبر القرون، على الرغم من تغير الأزمنة يعكس صمود الهوية المصرية وقدرتها على التكيف مع التحولات والحفاظ على موروثها دون أن تفقد نواتها الأصلية.
“شم النسيم يشهد أن مصر بلد تعرف كيف تصنع وتجدد الحياة حتى في أقسى وأشد الظروف” هو وقفة تأمل في الزمان والمكان تذكرنا أن الفرح جزء من الشخصية المصرية وأن البساطة سر هذا الشعب العظيم الذي يعرف كيف يحوّل بيضة ملونة أو فسيخة بسيطة إلى رمز للبهجة والانتماء. وفي زمن تتسارع فيه إيقاعات الحياة، وتغزو فيه الشاشات والأجهزة كل تفاصيل يومنا يبقى شم النسيم مناسبة نادرة لإعادة التواصل مع الأرض والناس والحياة.
إنها رسالة حب نكتبها كل عام بلغة الزهور والطعام والضحكات عنوانها الدائم مصر ما زالت هنا تنبض بالحياة وتورث البهجة لأبنائها.