بين الانبهار والحرص: التكنولوجيا داخل الهرم الأكبر

0 297

كتب: د. محمد سليمان

 

لا أحد ينكر أن مصر تمضي بخطى واثقة نحو مواكبة التكنولوجيا الحديثة، وأن وزارة السياحة والآثار تسعى بجد للحفاظ على تراثنا باستخدام أدوات متطورة. تركيب أجهزة تنقية الهواء بتقنية “البلازما كلاستر” داخل هرم الملك خوفو خطوة تحسب للوزارة، تعكس رغبتها في تحسين البيئة الداخلية للأثر، وصيانة جدرانه، ومنح الزوار تجربة أكثر أمانًا وراحة.

 

لكن، وفي ظل هذا التوجه المحمود، يظل السؤال الأهم حاضرًا: هل يكفي الانبهار بالتكنولوجيا لنضعها داخل أعظم أثر في التاريخ دون أن نراجعها ألف مرة؟ نحن لسنا ضد الوزارة، ولسنا ضد التطوير أو حماية المناخ، بل نحن أول من يصفق لكل خطوة تجعل آثارنا أكثر استدامة، لكننا أيضًا نعيش في زمن تحوّلت فيه التكنولوجيا البسيطة إلى أدوات تدمير. طائرات مسيّرة لا يتجاوز ثمنها عشرة دولارات صارت تدمر مدنًا وجيوشًا! أليس من حقنا أن نتوجس قليلًا حين نزرع أجهزة إلكترونية داخل هرم صمد آلاف السنين كما بناه الأجداد؟

 

ثم هناك تساؤل آخر لا يقل أهمية: هل “انتعاش الجو” وتنقية الهواء داخل الهرم قد يكون مجرد رفاهية أكثر منه ضرورة؟ فالهرم الأكبر ظل محتفظًا بمناخه الداخلي الخاص آلاف السنين، وحافظ على جدرانه ونقوشه دون تدخل. فهل تمّت دراسة دقيقة لتأثير هذه الأجهزة على البيئة الداخلية للهرم؟ وهل يمكن مع مرور الزمن أن تؤثر هذه التقنية في الحجر من الداخل أو تغير التوازن المناخي الذي تكيّف معه الأثر عبر القرون؟ الحفاظ على بيئة الأثر يجب أن يكون أولوية، لا مجرد تحسين للراحة اللحظية.

 

القضية ليست تشكيكًا ولا عرقلة للتطوير، وإنما مطالبة بالحرص الشديد. نحن حضارة بُنيت على مدى آلاف السنين، فلا يجوز أن نتعامل مع رموزها بعقلية “التجربة والخطأ”. التكنولوجيا رائعة، نعم، وهي الحل لمشكلات الرطوبة والهواء والتغيرات المناخية، لكن الوجه الآخر لها قد يكون مدمرًا إن لم يُفحص ويُراجع بدقة متناهية.

 

ما نطالب به ببساطة هو أن تضع الوزارة، ومعها المجتمع العلمي والأمني، جميع الضوابط والفحوصات قبل أن نترك أي جهاز ينبض داخل أحشاء الأهرام. ليس من المقبول أن ننبهر فقط بالجانب المشرق للتقنية، ونتجاهل احتمال أن يكون لها جانب مظلم، حتى لو كان الاحتمال ضئيلًا.

 

الهرم الأكبر ليس مجرد حجر أثري، إنه شاهد على عبقرية المصري القديم، وذاكرة أمة كاملة، وأمانة في أعناقنا أمام العالم. لذلك نقولها بوضوح: نحن مع التكنولوجيا… ومع التطوير… لكن بالحرص، ثم الحرص، ثم الحرص.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق