دار الأوبرا المصرية .. هذه القلعة المتبقية من الحضارة الثقافية المحترمة فى مصر، والتى لا تزال تحافظ على تاريخ مصر وتراثها الثقافى والفنى، يتعرض فنانوها المتميزين منذ عدة سنوات لإنهاء عطاءهم المبدع للفن، وذلك بإنهاء العلاقة التعاقدية ببن الفنان ودار الأوبرا المصرية عند بلوغ سن الستين، وكأن الفنان أصبح غير قادر على العطاء بعد هذا العمر! وهذا الأمر لم يكن سائداً من قبل فى مصر، ولم يُطبق حتى الآن فى سائر بلدان العالم، حتى جاء أحد رؤساء دار الأوبرا السابقون واخترع نظاماً جديداً وهو ضرورة التخلص من الكفاءات الفنية العريقة واستبدالها بشباب عديمى الخبرة، ليس لديهم القدرة على العطاء الفنى بنفس المستوى الذى يقدمه الفنانين الكبار.
ترتب على ذلك الاستغناء وتشريد العشرات ممن تجاوز أعمارهم الستون عاماً وأسرهم، الأمر الذى دفع بعضهم إلى بيع بضائع متواضعة على الأرصفة للحفاظ على حياتهم من الانهيار .. فمن السهل إيجاد موظفاً يحل محل غيره ممن تجاوز عمره الستون عاماً ولكن ليس من السهل الحصول على فنان مُبدع أفنى الكثير من عمره من أجل العطاء الفنى وإمتاع المشاهد والمستمع بفنه.
وبالبحث عن أسباب اتخاذ رئيس دار الأوبرا آنذاك لهذا القرار، فالأمر لم يتعلق بعدم القدرة على العطاء، والدليل على ذلك استمرار العديد من النجوم فى ساحة الغناء حتى الآن على الرغم من تجاوزهم سن الستين، ومنهم من يغنى فى الأوبرا فى مختلف المناسبات، ولكن الأمر يتعلق بالشكل. إذ أن رئيس دار الأوبرا فى هذا التوقيت كان له رأى آخر وهو أن الفنان لابد وأن يتميز بصفات معينة وأهمها الشباب والحضور والمظهر .. الخ، حتى وإن كان على حساب خبرته الفنية، ويتردد أن هذا المطلب كان يُعد خصيصاً لإرضاء قيادات سابقة مع أنهم لم يعترضوا على الفنانين القدامى بل على العكس كانوا دائمين على الحضور والاستماع إليهم.
وما لم يعلمه محبى الفنانين القدامى أن كل من اقترب من سن الستين أصبح يعيش فى مرحلة من الإحباط واليأس فى انتظار مصيره الحتمى الذى اختاره له صاحب هذا القرار الذى رحل عن دار الأوبرا متقلداً منصباً أعلى كان ينتظره منذ سنوات، فى الوقت الذى تتشرد فيه أسر كاملة بسبب قراره التعسفى ضد من بلغ سن الستين من الفنانين القدامى.. فكيف تتعامل الدولة مع فنانين بعقود سنوية بهذا المنطق خاصة وأن معظمهم غير معينين بدرجات وظيفية، وأين نقابة المهن الموسيقية التى من المفترض أن تحمى هؤلاء الفنانين؟ وكما سمعنا أن أحد بنود العقد كان ينص على صرف مكافأة نهاية الخدمة وقد تم إلغاء هذا البند حتى يلقى الفنان مصيراً معتماً بعد أن كان مطمئناً هادىء البال والفكر، يُبدع فى صمت ويتحول إلى إنسان يصارع الظلم من أجل الحياة. فكيف لهذا الفنان أن يبدع بعد أن افترسه جهلاء المناصب ..
السيدة وزيرة الثقافة على دراية كاملة بما يحدث لهؤلاء الفنانين، لكنها لم تحرك ساكنة لإتخاذ قرار جرىء ولو مرة واحدة باستمرار الفنان فى موضعه طالما أنه قادر على العطاء لكى تثبت أمام مجلس النواب والرأى العام أنها تمتلك قدرة على اتخاذ قرارات مصيرية خاصة وأنها تصب لصالح الفن والفنانين.