الإمام الشيخ محمد عبده .. رمز التجديد في الفقه الإسلامي (1849-1905م)   (1266-1323هـ)

0 665
        إعداد/ سيد حاج

 

أحد دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، ورمز للتجديد في الفقه الإسلامي، ساهم بعد التقائه بأستاذه جمال الدين الأفغاني في إنشاء حركة فكرية تجديدية إسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري والحضاري وإعادة إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر. ويُعد أحد الرجال الذين برزوا فى القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين، درس فى الأزهر، وتولى الإفتاء فى الديار المصرية، كما تولى القضاء، فهو مفكر وعالم دين وفقيه وقاضي وكاتب ومجدد إسلامي مصري.

 

حياته
وُلد محمد بن عبده بن حسن خير الله سنة 1266هـ الموافق 1849م في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت في محافظة البحيرة لأب تركماني، وأم مصرية تنتمي إلي قبيلة بني عدي العربية،  درس في طنطا إلى أن أتم الثالثة عشرة حيث التحق بالجامع الأحمدي، وأحب فى صباه رياضة الفروسية والرماية والسباحة.
تعليمه
أرسله أبوه إلى الكُتّاب، حيث تلقى دروسه الأولى على يد شيخ القرية، وعندما شبَّ أرسله إلى الجامع الأحمدى ليتعلم مثل كثير من الناس بعد أن حفظ القرآن، لكنه تمرد على هذ التعليم بعد سنة ونصف، حاول فيها أن يفك طلاسم “الأجرومية”، وهو كتاب في علم النحو ألفه ابن آجروم، بدأه بالكلام عن الكلام وأنواعه وتسلسل مع المواضيع بأسلوب ابتكره، سهل المنال للطالبين. ويُعد من أهم متون النحو العربي، ولأهميته البالغة فقد تصدى لشرحها جهابذة العلماء والنحاة قديمًا، وتُدَرس في جامعات اللغة والشريعة، لكن أعيته الحيل، فاعتقد أنه غير مستعد لتلقى العلم، وصمَّم على العمل فى الحقل مع إخوته وأهله؛ لكن أبوه أصر على تعليمه، فلما وجد من أبيه العزم على ما أراد وعدم التحول عما رسمه له، هرب إلى أحد أخوال أبيه هو الشيخ درويش، وكان فى الخامسة عشرة من عمره فتيًّا قويًّا مُغرمًا بركوب الخيل واللهو مع أمثاله من الشباب، ولكن الشيح درويش تلقَّاه كما يتلقى الطبيب المريض، وعالج هذه العقدة التى كونتها “الآجرومية” فى نفس الفتى، وأعطاه كتابًا سهلًا فى المواعظ.
لم يكن لديه صبر على القراءة، فسرعان ما يمل، لكن الشيخ درويش أخذه برفق وتؤده، وكان يُفسِر له ما يقرأ، فوجد الفتى فيما يقرأ لذة، وانصرف عن اللهو، وعكف على قراءة الكتب، ويقول فى ذلك: »وطلبت منه يومًا إبقاء الكتاب معى، فتركه، ومضيت أقرأه، وكلما مررت بعبارةٍ لم أفهمها وضعت علامةً لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت فى ذلك اليوم كل رغبة فى اللعب، وهوًى ينازعنى إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عمَّا لا أفهمه، فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندى من الرغبة فى المطالعة، والميل إلى الفهم، ولم يأت اليوم الخامس إلّا وقد صار أبغض شيءٍ إليَّ هو ما كنت أحبه من لهو ولعب، وعاد أحب شيءٍ إليّ ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم«.
وهكذا استطاع الشيخ درويش أن يحل العقدة النفسية، ويُعيد للفتى ثقته بنفسه وفى ذكائه، ويحببه فى العلم، وقد أفاد الفتى من ذلك درسًا لم ينسه مدى حياته، وهو أن الأزهر بحاجة إلى الإصلاح الشامل فى كتبه التى تُدَّرس، وفى المُعلمين الذين يقومون بالتدريس، وكان هذا أحد أهدافه فى الحياة.
حياته العملية
تأثر الشيخ “محمد عبده” بعدد من الرجال الذين أثروا حياته فتعرّف على جمال الدين الأفغاني سنة 1871 وتتلمذ على يديه، ولازم حلقات درسه فتوطّدت الصلة بينهما وأصبحا صديقين. وعُيّن مدرّسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم العليا، ودرّس أيضا في مدرسة الألسن، وأجاد اللغة الفرنسية بعد الأربعين. اتصل “محمد عبده” بالرجل الثاني الذي كان له أثر كبير في توجيهه إلى العلوم العصرية، وهو الشيخ “حسن الطويل” الذي كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة والسياسة، واتصل بعدد من الجرائد، فكان يكتب في “الأهرام” مقالات في الإصلاح الخُلقي والاجتماعي، فكتب مقالا في “الكتابة والقلم”، وآخر في “المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني”، وفي “العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية”، وتولى رئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية. وقام بالتدريس فى دار العلوم وأول درس ألقاه كان عن مقدمة ابن خلدون، التى كان قد نشرها الطهطاوى فى القاهرة عام ١٨٥٧.
حينما تولّى الخديوي توفيق العرش، تقلد “رياض باشا” رئاسة النظار، فاتجه إلى إصلاح “الوقائع المصرية”، واختار الشيخ محمد عبده ليقوم بهذه المهمة، فضم “محمد عبده” إليه “سعد زغلول”، و”إبراهيم الهلباوي”، والشيخ “محمد خليل”، وغيرهم، وأنشأ في الوقائع قسمًا غير رسمي إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية، وكان الشيخ “محمد عبده” هو محررها الأول. وظل الشيخ “محمد عبده” في هذا العمل نحو سنة ونصف السنة، استطاع خلالها أن يجعل “الوقائع” منبرًا للدعوة إلى الإصلاح، وأصبحت تحت رئاسة محمد عبده لسان حال الاتجاه التحرري على المباديء العامة الهادفة إلى الصحوة الإسلامية وتحرر الشعوب الإسلامية، وكان يميل للإصلاح التدريجي وتركزت اهتماماته حول الإسلام ووضعه فى العالم الحديث ولكن ثورة عرابى وضعت حدا لنشاطه فى هذا الاتجاه ونفي وسافر إلى تونس وبيروت.
عمله في القضاء
حين سمح له بالعودة عام ١٨٨٩ م عُين قاضيا بالمحاكم الأهلية، وفى ١٨٩٩ تولى أعلى منصب ديني فى مصر، وهو منصب المفتي وظل به حتى وفاته. ومن عمله فى القضاء وضع رسالة عن إصلاح المحاكم الشرعية كان لها أكبر الأثر فيما حدث بعد ذلك من تطور لهذه المحاكم وإنشاء مدرسة القضاء الشرعى، وفى العام نفسه عُين فى المجلس النيابى، وأخيرا سُمح له بتحقيق رغبته فى العودة للتدريس، فعُين عضوًا فى جماعة كبار العلماء التى أُنشئت بناء على اقتراحه، ومن خلال هذا الموقع أُتيح له أن يلعب دورًا مهمًا فى تطوير الأزهر، ومع هذه الأنشطة المتعددة وجد الوقت على مدى خمسة عشر عاما ليكتب العديد من الكتب، من أشهرها “رسالة التوحيد”.
كما نشر كتابًا للدفاع عن الإسلام ضد مدنية الغرب “الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية”، أما تفسيره للقرآن فلم يكمله، وقد نُشرت مقتطفات منه فى صحيفة تلميذه وصديقه محمد رشيد رضا في “المنار” بأكمله بعد وفاته. كما قام طلعت حرب بنشر ترجمة لكتابه “الإسلام وأوربا” باللغة الفرنسية. وقد أثارت آراؤه التجديدية والإصلاحية حفيظة التقليديين والمحافظين، والذين لم يكتفوا بتفنيد أفكاره، بل تعدوا ذلك إلى التهجم والتشهير والدسائس. ولكن تعاليمه لاقت قبولاً واسعًا من المفكرين المسلمين المستنيرين حيث كانت آراؤه تُنشر فى “المنار” الشهرية.
كان محمد عبده صاحب نظرة مثالية تنشد الكمال والإصلاح، ولقد تأثرت نظرته إلى التربية بتجربته الفردية الخاصة، ومن أهم آرائه فى التربية ما يأتى: التربية هى الطرق الوحيد للنهضة، واعتقد الإمام محمد عبده أن التربية هى البلسم الشافى لكل علة، واعتبر فقر العقول والتربية أشد ضروب الفقر، وفى نظره أن الإنسان إذا فقد التربية فقد كل شيء، وأن الإنسان لا يكون إنسانًا حقيقيًا إلا بالتربية. فالتربية والتعليم يساعدان على اتقان عمله وصناعته.
تأثيره الثقافي في تعليم المرأة
علق جامع الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده على بعض الآراء بقوله: من المؤسف أن الإمام كان من أنصار طبقية التعليم لكن ينبغى ألا تحكم على آراء الرجل بمعايير عصرنا. فقد كان التعليم طبقيا بالفعل آنذاك، كما ينبغى أن ننظر إلى حقيقة هذه الآراء فى اهتمام الإمام بتعليم الفقراء. بل إنه قد عبر عن رأيه فى أنه يود أن يعمم مثل هذا التعليم فى البلاد لكل الطبقات فيقول: “كنت أحب أن يكون هذا التعليم عاما فى البلاد منبثا فى جميع الطبقات ثم يتسنى بعده لكل طبقة أن تتناول من العلوم والفنون واللغات فى المدارس الثانوية والعالية ما هى مستعدة له”. هذا التعليم سلم يرتقى عنه الغنى إلى التعليم العالى ويجعل الفقير على مقربة من الغنى فى الفكر والخلق، فإما أن يجد فيلحقه وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته فى أعماله بالصدق والأمانة.  فهذا التعليم لا يستغنى عنه أحد “محمد عمارة”: وهذا يوضح أنه كان ينظر إلى هذا التعليم على أنه تعليم عام مشترك للجميع كما نفهمه اليوم.
يرى محمد عبده أن الأغنياء يجب أن يبذلوا من مالهم فى سبيل نشر العلم والتعليم ويرى أن عليهم دورًا هامًا فى هذا السبيل نحو الفقراء وهو ما يلقى الضوء على مزيد من فهم رأيه السابق فى مراتب التعليم. يقول الإمام:  إن على الأغنياء منا الذين يخافون من تغلب الغير عليهم وتطاول الأيدى الظالمة إليهم . وأن يتآلفوا ويتحدوا ويبذلوا من أموالهم فى سبيل افتتاح المدارس والمكاتب واتساع دوائر التعليم حتى تعم التربية وتنبت فى البلاد جراثيم العقل والإدراك وتنمو روح الحق والإصلاح وتتهذب النفوس ويشتد الإصلاح بالمنافع والمضار.
كان الإمام محمد عبده من المؤمنين بضرورة تعليم المرأة وتنوير عقلها، فقد رأى أن المرأة قد ضرب بينها وبين العلم بما يجب عليها فى دينها أو دنياها، ونادى بتكوين جميعة نسائية تقيم المدارس لتعليم البنات، وقد دافع عن تعليم المرأة مع تلميذه قاسم أمين فيما جاء بكتاب “تحرير المرأة”، وعن الدعوة إلى تحرير الفكر والفهم الصحيح للدين :لقد عبر محمد عبده بوضوح عن خلاصة نهجه فى الإصلاح بالدعوة إلى تحرير الفكر والفهم الصحيح للدين وفى ذلك يقول: ارتفع صوتى بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع فى كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى.
وفاته
توفى الشيخ محمد عبده بالإسكندرية في 11 يوليو عام ١٩٠٥م بعد معاناة من مرض السرطان عن عمر يناهز 56 عامًا، ودُفن بالقاهرة.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق