“عيد الأم”.. احتفل به المصري القديم وورثه الأحفاد

0 568
كتبت- ملك عبدالله سمرة – باحثة أثرية

 

رغم مرور أيام قليلة على عيدها، لكننا نتذكر أعظم ما خرج على لسان الشاعر الكبير حافظ إبراهيم فى قصيدة “العلم والأخلاق”، وما وصف به مكانة الأم ودورها في بناء الحضارات والمجتمعات في أبياته: “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعب طيب الأعراق”.. هگذا وصف الشعراء مكانة الأم. وفي العصور القديمة رفعوا مكانتها لدرجة تقديسها لتصل إلى مكانة الآلهة.

 

فقد جاءت نقوش المعابد المصرية لتُظهر مدى تقديس المصري القديم للأم، كما عثر الأثريون على العديد من البرديات التي تُبرز تلك المكانة لدرجة أنهم خصصوا له يوم 21 مارس من كل عام للاحتفال به، وتحتفي به كل دولة بطقوس متشابهة.‍ وقد عظمت الحضارة المصرية القديمة الأم، وكانت أول من احتفت بالأمومة وجعلت لها عيدًا يعقب عيد وفاء النيل، ولقب المصرى القديم الأم بلقب “نبت بر”، أي ربة البيت، وقد اختار المصريون موعد الاحتفال بعيد الأم آخر شهور فيضان النيل عندما تكون الأرض الخصبة معدة للخصوبة، أي وقت خصوبة الطبيعة في مصر وهو شهر (هاتور) في التقويم المصري القديم وهو تصحيف لاسم الإلهة (حاتحور) التي هي ربة الجمال والأمومة.
وقد شبه المصريون القدماء الأم بنهر النيل الذي يهب الحياة والخصب والخير والنماء، وقامت حتحور بدور الأم البديلة مع الطفل حورس الرضيع واحتضنته بعد ما تركته أمه إيزيس في أحراش الدلتا وذهبت تبحث عن أشلاء زوجها أوزوريس، فصار (حوربا غرد) إبنا لحتحور التي قامت بإرضاعه والعناية به. وفى وقت لاحق عندما اشتد الصراع بين حورس وعمه ست الذي قام باقتلاع عين حورس اليسرى قامت حتحور بمداواة‍ عين حورس بوضع قطرات من لبن غزالة برية، ففتح حورس عينيه وتم شفاؤه وأُقيم احتفالاً سنوياً لتكريم الإلهة إيزيس، وهي من أكثر الإلهة المحبوبة، تحملاً وصبراً في مصر القديمة، والتي كانت رمزاً للأم والزوجة المثالية وكانت راعية الطبيعة والسحر، ووثقت إحدى البرديات التى يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف عام ق.م تهنئات للأم بعيدها “اليوم عيـدك يا أماه‍ لقد دخلت أشعة الشمس من النافذة لتقبل جبينك .. تبارك يوم عيدك .. واستيقظت طيور الحديقة مبكرة لتغرد لك في عيدك، وتفتحت زهور اللوتس المقدسة على سطح البحيرة لتحيتك، اليوم عيدك يا أماه .. فلا تنسي أن تدعو لي في صلاتك للرب.

وكان الاحتفال بعيد الأم يتم مع شروق الشمس التي يعتبرون نورها وأشعتها رسالة من إله السماء للمشاركة في تهنئتها. إن المصريين القدماء كانوا في ذلك اليوم يضعون للأم في غرفتها الهدايا والتماثيل المقدسة المعبرة عن الأمومة، واعتبروا تمثال إيزيس التي تحمل ابنها حورس رمـزاً للأمومة وعيداً للأم، فكانوا يضعونه في غرفة الأم ويحيطونه بالزهور والقرابين، ويضعون حوله الهدايا المقدسة للأم في عيدها، وقد وُجد في كثير من مقابر الدولة الحديثة كثير من البرديات التي حوت نماذج من النصوص للأم في عيدها تعبر عن احترام الأم وتقديرها والاعتراف بأهمية دورها، فقد كانت لها منزلة عظيمة باعتبارها منبع الحياة ورمز الدفء والحنان والتضحية من أجل الأسرة وأولادها.
فالأم هى الأم مهما كانت مكانتها الاجتماعية وقد وثّقت لنا الحضارة المصرية القديمة جانب من علاقة بعض الملوك وارتباطهم بأمهاتهم، منهم الملك رمسيس الثاني الذى منح أمه الملكة “تويا” تكريمًا ملكيًا كبيرًا، وهى زوجة الملك سيتي الأول والتي عاشت حتى تنصيب إبنها الملك رمسيس على عرش والده،‍ وقام إبنها بدفن جثمانها بين ملوك مصر العظام في منطقة وادي الملوك بجبانة طيبة من قبيل التكريم والتشريف لها، بينما أقام مقبرة زوجته الملكة نفرتارى بين الملكات والأميرات في منطقة وادي الملكات لتحظى بمقبرة أدنى منزلة من مقبرة أمه، مما يعكس لنا شدة حبة لأمه وحرصه على إكرامها.
ومن النماذج الأخرى الملك أمنحوتب الرابع الشهير بإخناتون والذى جمعته بأمه الملكة “تى” علاقة خاصة، ورغم أنها لم تكن من أصول ملكية، فقد كانت ابنة “يويا” كاهن الإله “مين” رب الخصوبة وأمها “تويا” رئيسة حريم الإله “مين بأخميم”، وقد كانت الملكة “تى” من أعظم ملكات مصر القديمة، كما لعبت دورًا كبيرًا فى مساندة ابنها الملك فى أمور المملكة اقتصاديًا وسياسيًا، وكانت نائبة عنه فى الاحتفالات، لدرجة أنه كان يكتب اسمها فى المرسلات الدولية، كما لم تعارض إبنها الملك من عبادة “آتون” رغم استمرارها على عبادة “آمون” مما أجل غضبة كهنة آمون على إخناتون، إكرامًا للملكة “تى” التى استمرت على عقيدة عبادة “آمون” وأجزلت الهبات والعطايا للكهنة لتمنعهم من إيذائه مما يعكس لنا قوة العلاقة بين الملكة وابنها الملك.

وقد قُدست الأم وذُكرت في البرديات ومن وصايا “الحكيم آنى” إلى ابنه: “يجب ألا تنسى فضل أمك عليك ما حييت .. فقد حملتك قرب قلبها .. وكانت تأخذك إلى المدرسة وتنتظرك ومعها الطعام والشراب .. فإذا كبرت واتخذت لك زوجة .. فلا تنسى أمك”. ويوصى بالأم وحسن معاملتها ويذكر بما لها من أفضال فيقول: “رد إلى أمك ضعف الخبز الذي أعطته لك .. واحملها كما حملتك .. لقد كنت بالنسبة لها عبئا مرهقًا وثقيلاً.. وهى لم تسأم أو تضجر عندما أزف موعد مولدك .. وحملتك رقبتها ومكث ثديها على فمك لسنوات”.. ويوصى بعدم عقوقها قائلا: “تذكر أمك التي ولدتك وأنشأتك تنشئة صالحة .. الأم هبة الإله للأرض .. فقد أودع فيها الإله سر الوجود .. أجلب الرضا لقلب أمك .. والشرف لبيت أبيك”.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق