تعريب مصر ولغة “رسالة الإمام”

    بقلم/ حسين السيد

 

في إطار متابعة اللغط المفتعل الذى أُثير حول مسلسل “رسالة الإمام”، الذى يتناول حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعى، أحد أئمة الفقه الأربعة كما هو معلوم للجميع. وتناثرت السهام الموجهة فى السوشيال ميديا حول لغة المسلسل، فكيف لصنَّاعه أن يُظهروا الإمام متحدثًا اللهجة المصرية المعاصرة؟ ومن ذلك ما كتبه الدكتور خالد فهمى، الأستاذ بكلية الآداب جامعة المنوفية: “ما يحصل فى مسلسل الشافعى عبث يرقى لمستوى الجريمة، جريمة فى اللغة؛ فالشافعى قرشى ولسانه الفصحى أو العربية وليس اللهجة المصرية المعاصرة، وجريمة فى مخالفات فيما يتعلق بسيرته الذاتية وملكاته الفقهية والعلمية، وجريمة فى كثير مما يجرى على لسان الممثل مما يقال إنه فقه الشافعى”، كيف هذا والإمام قد حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وقرأ الموطأ على الإمام مالك وهو ابن عشر سنين، وأذن له مفتى مكة بالإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو مؤسس علم أصول الفقه..؟!

 

وبداية نؤكد أننا جميعا نحب الإمام الشافعى، ويضعه معظمنا فى المرتبة الأولى بين الفقهاء، ونحبه أكثر لأنه عاش فى مصر وفيها دُفن، وفيها أعاد تصنيف كتابه “الرسالة” الذى ألفه ببغداد، ومن ذلك قوله قبل مجيئه إليها:

 

لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر
ومن دونها أَرض المهامه والقفر
فوالله لا أدرى الفوز والغنى
أُساق إليها أم أُساق إلى القبر
لقد هالنى ما سبق ذكره بحق المسلسل، فقد وصفه الدكتور بأنه عبث يُرقى لمستوى الجريمة، ومن جانبى أختلف مع ما ذكره! وأقف عند مسألة اللغة أو اللهجة التى تحدث بها الإمام فى المسلسل رغم أن لها ما يبررها، وذلك لأننا فى فترة مبكرة نسبيًا من تاريخ فتح العرب لمصر. فالإمام الشافعى ولد سنة 150ه، وتوفى سنة 204ه، وفتحُ مصر كان سنة 20ه، أى 130 سنة هى المدة التى كانت مصر فيها تحت حكم العرب، ومن المؤكد أنها لن تستطيع أن تغير لسانها من اليونانية والقبطية إلى اللغة العربية أو جلدها بكل سهولة فى هذه المدة القصيرة، بل إنها ستقاوم اللغة الوافدة الجديدة وتقاوم إلى أن تستسلم فى الأخير.

 

صحيح أن اللغة العربية لم تكن غريبة على مصر حين فتحها العرب، وذلك يرجع إلى وفود القبائل العربية إلى مصر بغرض التجارة أو الاستقرار، كما ذكر الدكتور أحمد مختار عمر فى كتابه “تاريخ اللغة العربية فى مصر”، لكنها لم تكن ذات شأن وقتها، هذا وقد عدَّد الدكتور مختار عمر مراحل تغلب اللغة العربية على اللغة القبطية، فبدأت المرحلة الأولى، وهى الاحتكاك بينهما، فى الفترة الممتدة بين سنة 20ه إلى نهاية القرن الأول الهجرى، وتتسم هذه المرحلة بعدم انتصار واحدة على الأخرى، فقد كان ميزان القوى متعادلا لمعظم الوقت رغم أن اللغة القبطية هى اللغة الرسمية والأقباط هم المسيطرون على وظائف الدولة.

 

أما المرحلة الثانية فتنتهى بعام 215ه، وفى هذه المرحلة كانت الغلبة للغة العربية، حيث تم تعريب الدولة، وتزايدت هجرات القبائل العربية إلى مصر، إضافة إلى دخول الأقباط الدينَ الإسلامي. والمرحلة الثالثة والأخيرة، تمتد من القرن الثالث الهجرى حتى نهاية القرن الرابع الهجرى فى عهد الفاطميين، وفى هذه المرحلة انتشرت اللغة العربية حتى أصبحت فى هذا القرن لغة جميع أفراد الشعب المصرى.
وبالنظر إلى ما سبق يتضح أن الإمام الشافعى كان فى المرحلة الثانية، وهى مرحلة كانت الغلبة فيها للغة العربية، لكنها لم تصل إلى مرحلة الحسم والظفر، حيث لم يكن المصريون بقادرين على التحدث بالفصحى أو هضم اللغة هضما يسمح لهم باستيعابها وتذوقها، بحيث يصح القول: إن مصر لم تنجب، فى تلك المرحلة، شاعرا يضاهى شعراء العربية الكبار، أما الذين برعوا فى العلوم الأخرى فلم يكونوا من أبنائها الخلص، بل كانوا وافدين من الجزيرة العربية واستوطنوها.
ومن ثمَّ لا يدعى أحد أن اللغة العربية الفصحى كانت سائدة بين أوساط المصريين فى عصر الإمام الشافعى، كما أن الأقباط لم يتحدثوها قط، بل إنهم لم يستخدموا الفصحى لغة فى تأليف الكتب، ومعلوم أن لغة الكتب تختلف عن الحديث العادى، فإننا نتحدث العامية فى حواراتنا، لكننا لا نكتب إلا بالفصحى، أما الأقباط فلم يكونوا هكذا، فإن كتاباتهم قريبة من العامية وبالطبع حديثهم، ومن ذلك ما ذكره محقق كتاب “تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة” لساويرس بن المقفع، ونشرته الهيئة العامة لقصور الثقافة فى عشرة أجزاء: “اتفق أنه (ساويرس بن المقفع) كان جالس عند قاضى القضاة، إذ عبر عليهم كلب، وكان يوم الجمعة، وكان هناك جماعة من شهود فقال له قاضى القضاة: ماذا تقول يا ساويرس فى هذا الكلب، هو نصرانى أو مسلم؟ فقال له: اسأله فهو يجيبك عن نفسه. فقال له القاضى: هل الكلب يتكلم؟ إنما نريدك أنت تقول لنا. قال: نعم يجب أن نجرب هذا الكلب، وذلك أن اليوم يوم جمعة والنصارى يصوموا ولا يأكلوا فيه لحم، فإذا فطروا عشيه يشربوا النبيذ والمسلمين ما يصوموه ولا يشربوا فيه النبيذ، ويأكلوا فيه اللحم، فحطوا قدامه لحم ونبيذ فإن أكل اللحم فهو مسلم، وإن لم يأكله وشرب النبيذ فهو نصرانى. فلما سمعوا كلامه تعجبوا من حكمته وقوة جوابه وتركوه”، ونلاحظ هنا أن القاضى لم يُعمل قواعد النحو فى حديثه، فجاء كأنه باللهجة العامية، وساويرس نقله كما هو دون تعديل أو اتباع للقواعد، وقد عاش ساويرس فى عهد الدولتين الإخشيدية والفاطمية، أى بعد أن انتشرت اللغة العربية انتشارا واسعا.

 

ومن يقرأ كتاب ساويرس هذا، يجد عدم التزامه بقواعد النحو واللغة، ويجد أيضا صعوبة فى فهم الكتاب، وعلى الرغم من أنه اتقن قواعد اللغة العربية لكنه طورها فى شكلها المصرى كما يذكر محقق الكتاب.

 

إذن، المصريون وقت الإمام الشافعى لم يكونوا يتحدثون باللغة العربية الفصحى، بل نستبعد ذلك تماما، ونرى أنهم كانوا يخلطون بين اللغة القبطية واللغة العربية، حتى إن كلامهم لم يكن واضحًا بالشكل المطلوب ويحتاج إلى ترجمان ليبين المراد، فمثلا يذكر ابن إياس فى كتابه “بدائع الزهور فى وقائع الدهور”، أن الخليفة المأمون حضر بصحبة أخيه المعتصم إلى مصر بعد أن خمدت ثورة المصريين نتيجة الظلم الواقع عليهم سنة 217ه، فيقول ابن إياس: “فمر (المأمون) بقرية من قرى مصر، يقال لها طاه النمل، فمر عليها ولم ينزل بها، فلما جاوزها وحاد عنها، خرجت إليه عجوز قبطية، وهى ترتعش بين خادمين، وكانت تُعرف بمارية القبطية، فوقفت بين يديه، وبكت وصاحت، فظن المأمون أنها مظلومة، ووقف لها، وكان لا يسير إلا والتراجمة بين يديه، من كل جنس بلسانه، فسألها بعض التراجمة عن أمرها..” والواقعة موجودة برمتها فى كتاب ابن إياس، والشاهد أن المأمون كان يصطحب مترجما معه ليفهم الحديث ويحكم بين الناس، والواقعة كانت فى سنة 217ه، أى بعد وفاة الإمام الشافعى بثلاث عشرة سنة، فإذا كان المأمون يأخذ مترجما معه فكيف نطلب إلى الإمام الشافعى أن يكون حديثه مع المصريين باللغة الفصحى؟ وكما يُقال لكل مقام مقال، فمن الأجدر أن يكون الحديث باللغة التى يفهمها المخاطب، فمثلا إذا تحدث إنسان مثقف إلى بائع البطاطا باللغة الفصحى فإنه سيقذفه بالجمر.

 

الخلاصة، أن الأمر فيه تفصيل، فلا يؤخذ جملة واحدة، فحديث الإمام الشافعى فى المسجد لإلقاء دروس العلم يكون بالفصحى، أما كلامه مع المصريين فلا بد من أن يكون بالعامية المصرية.

 

والمصريون الذين أعنيهم هنا هم أصحاب البلد، فهى قبل أن يدخلها العرب قبطية اللسان ولغتها الرسمية هى اليونانية، مسيحية الدين، كما يقول محمد كامل حسين صاحب كتاب “الحياة الفكرية والأدبية بمصر من الفتح العربي إلى آخر الدولة الفاطمية” فى خاتمته، ويضيف أنه بعد هضمت مصر اللغة العربية “أصبح المصرى قادرا على التعبير عن أهوائه ومشاعره باللغة العربية، فبدأ الشعر المصرى معبرًا على الأحداث المصرية فى صورة بسيطة ساذجة، ولكن سرعان ما ازدهر الشعر وكثر الشعراء وأخذوا يتحدثون عن كل ما يقع تحت حواسهم، وانتزعوا زعامة الشعر والكتابة فى العصر الفاطمى واستمروا يحافظون على هذه الزعامة إلى الآن، وكان الشعر والنثر معبرين تعبيرا صادقا للحياة المصرية وللشخصية المصرية.
Comments (0)
Add Comment