كلما ذهب نفر إلى التشكيك فى ثوابت الدين، قلت فى نفسى: لم يتذوق بعد حلاوة الإيمان، ولم يكن قلبه عامرا بالقرآن، وتلوت قوله تعالى: “ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم”، سيحاولون الزعم بأن كلامهم ما هو إلا ناتج عن أبحاث عويصة ودراسات دقيقة، لكنها تحمل فى طياتها أمراضا خبيثة، ليقتنع بكلامهم حفنة من الضالين، سيخوضون فى ركائز أساسية، كالطعن فى حديث الإسراء والمعراج، ويذكرون بالسوء عائشة بنت أبى بكر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وغيرهم، لنجد أنفسنا فى النهاية على دين باطل، وما كنت لأحسب أن تتسارع اللكمات هكذا فى الدين الإسلامى، وكنت أتعجب وأتساءل: كيف يجرؤ الإنسان – وخاصة إن كان من المسلمين- على قول مثل هذه الترهات؟! كيف وقد نهانا القرآن عن الخوض فى مثل هذه الأمور؟ أوليس الله سبحانه وتعالى هو القائل: “وإذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره”؟! ولكن عجبى يزول وتساؤلى يتلاشى، لعلمى أنه لم يتذوق بعد حلاوة الإيمان ولم يقرأ القرآن بإمعان، هذه الحلاوة تذوقها من قبل الوليد بن المغيرة المشرك، بعد أن سمع الآيات الأولى من سورة غافر، فقال ريحانة العرب: “فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”.
والوليد صادق فيما قال، فمن يقرأ القرآن يستشعر هذه الحلاوة، ويقبل عليه غير مدبر عنه، رغم أنه قد لا يفهم كثيرا من ألفاظه، وأقرأه فأجد كثيرا من آياته تنبطق علىَّ، وأقول: سبحان الله، أنزل هذا القرآن منذ 1400 سنة؟ والله لكأنه نزل فى وقتنا الحالى، وسيأتى غيرنا ويقولون نفس هذا الكلام، أشعر براحة نفسية وباطمئنان كبير، أرجع إلى البيت متأخرا فأقرأ بعض آياته فتهدأ نفسى، وإن أنس فما أنسى ذاك الرجل المسيحى الذى كان يعمل ليلا فى سينما هيلتون رمسيس، وكنت أعمل أيام الإجازات، حيث كان هذا الرجل لا يستمع إلا إلى إذاعة القرآن الكريم، وكان يقضى على وحشة الليل بسماع القرآن، قد لا أعرف الكثير من معانى القرآن إلا أننى مؤمن به أشد الإيمان، لا يفارقنى فى سفرى وترحالى، وهنا أتذكر قول الإمام أبى حامد الغزالى فى كتابه الإحياء، فى الجزء الأول عندما فرق بين إيمان العامة وإيمان المتكلمين وهم المتخصصون فى علم الكلام الذى يتناول العقائد الإسلامية ويدافع عنها، فغايته كما يقول الغزالى “حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة”، ومنهم الأشاعرة والمعتزلة، لكن أبا حامد فضَّل إيمان العامى على إيمان المتكلم وهو الذى يسخر عقله للدفاع عن الإسلام كما ذكرنا، فماذا قال أبو حامد:
“فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقاد العامى فى الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهى والصواعق، أما عقدية المتكلم الحارس بتقسيمات الجدل كخيط مرسل فى الهواء، تهزه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد، فاعتنقه تقليدا كما اعتقد نفس الاعتقاد تقليدا، إذ لا فرق فى التقليد بين تعلم الدليل أو تعلم المدلول، فتلقين الدليل شىء والاستدلال بالنظر شىء آخر بعيد عنه، ثم الصبى إذا وقع نشؤه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها ولكنه يسلم فى الآخرة باعتقاد أهل الحق، ولم يكلف الشرع أجلاف العرب بأكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد، فأما البحث والتفتيش وتكلف نظم الأدلة فلم يكلفوه أصلا، ومن يرد أن يسلك طريق الآخر فعليه أن يشتغل بالعمل، ويلازم التقوى، وينهى النفس عن الهوى ويشتغل بالرياضة والمجاهدة فتنفتح له أبواب من الهداية، تكشف عن حقائق هذه العقيدة بنور إلهى يقذف فى قلبه بسبب المجاهدة تحقيقا لوعده عز وجل: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين”.
وعلى هذا فإن إيمان الفلاح الأصيل الذى لم يتعلم ولم يقرأ لكن قلبه مملوء إيمانا، هذا الفلاح أفضل من جماعة التنوير التى تدَّعى العلم والمعرفة لكن قلبها خال من الإيمان، لم تشعر بالنور الإلهى الذى يشعر به الفلاح، هذا النور هو الذى يقود الإنسان إلى بر الإيمان والهداية والصلاح، هذا النور هو الذى أنقذ أبا حامد الغزالى من الضلال إلى الرشاد، أولم تقرأ كتابه “المنقذ من الضلال”؟ فإن لم تقرأه إلى الآن فقد فاتك الكثير، ولم يهتد أبو حامد إلى الحقيقة الإلهية بمنطق المنطقيين ولا بأدلة المتكلمين ولا بفلسفة الفلاسفة، وإنما اهتدى بنور قذفه الله تعالى فى الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، ويقول أبو حامد الغزالى: فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة. ويفسر الغزالى “الشرح” من قوله تعالى “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام”، يفسره بأنه نور يقذفه الله تعالى فى القلب.
وقد عبر عن هذا المعنى ابن سينا فى الإشارات والتنبيهات تحقيق سليمان دنيا، فيقول ابن سينا: “جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد”، أى أن النور الإلهى لن يكون موردا متاحا لكل إنسان، وكما يقول سليمان دنيا: “قلة عدد الواصلين إلى الحق”، ولن يصل إبراهيم عيسى وأمثاله إلى الحق، بل هم أبعد الناس عن الوصول إليه، لكن من الممكن أن يصل إليه آخرون.
هؤلاء القوم لم ينعموا بهذا النور الإلهى، لم يجربوا لذة قراءة القرآن، وكأن قلوبهم نحتت من حجارة، “ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة”، فلينعموا قليلا بمتع الحياة الدنيا، ثم سيكون مآلهم جهنم وبئس المصير.