ما وراء الحياة.. الروح مستقرها السماء والجسد للأرض

0 1٬343

 

بقلم/ ملك عبدالله سمرة – باحثة أثرية

كانت عمليات تحنيط الموتى من أهم الممارسات الجنائزية بالنسبة للمصريين القدماء حيث يرتبط حفظ الجثث بفكره الخلود، والحياة الأخري بعد الموت. فالاحتفاظ بالجسد سليمآ يجعل الروح التي انفصلت عنه بعد الوفاة من السهل عليها أن تعود وتتعرف عليه وتدب فيه الحياة فينعم بالخلود.

گان للقدماء فلسفة دارجه التحنيط، فالمصري القديم لم يكن يخاف الموت، إنما كان يجهز له باحتفال كأنه يريد الانتقال سريعًا إلى الحياة الأخرى لينعم بحقول الأيارو. الحياة الأخرى ستكون أفضل من هذه الحياة، فهي حياة الآلهة، لذلك لا بد من التحنيط استعدادًا لها، ولإيمان المصري بعودة الأرواح جعلهم يحفظوا الجسد لعودة أروحهم. تطلبت عملية التحنيط إخلاء الجثة من كل ما تحتويه من عناصر رخوة لا يمكن تجفيفها وهي بداخلها فانتزع المصري الرئتين والكليتين والمعدة والمصارين وحنطها وحفظها في “أواني كانوبيه”. وقد لخص المصري القديم مفهومه في أحد نصوص الأهرام بهذه العبارة، حيث تخيل أنه بحلول الموت يفترق الجسم والروح لمدة زمنية محددة، ثم تعود الروح إلى الجسد يوم الدفن لكي ترشدها في رحلة العالم السفلي، ولكن في النهاية تبقي الروح خالدة مخلدة في السماء، بينما يظل الجسد على الأرض.

 

أيضًا، فإن المصري القديم كان يؤمن بفكره البعث والخلود فكانت فلسفته تقوم على أن هناك نوعين من الموت: “الموت الأول، والموت الثاني”. الموت الأول من وجهه نظره هو مفارقة الحياة، أي مفارقة الروح للجسد والدخول إلى عالم غامض، ولكنه لم يعتبره نهاية الحياة، وإنما هي مرحلة انتقالية. أما الموت الثاني فيعني تحلل الجسد وفساده. ولم يكن المصري القديم يخشي الموت الأول، لكنه اعتبر الموت الثاني سداً يمنعه من العبور إلى الخلود والحياة الأبدية في العالم الآخر، لذلك لجأ إلى فكره التحنيط، وذلك للحفاظ على الجسد لكي تستطيع الروح التعرف عليه، وبعد حدوث الوفاة مباشرة كان أهالي المتوفى يحملون الجسد ويذهبون به إلى إحدى ورش التحنيط ويحاولون الأتفاق مع رئيس الورشة على أمرين وهما:
1-إمداد الورشة بكافة المعلومات عن هوية المتوفي، وتعتبر من أهم ما كان ما يهتم به المصري القديم، لأن فقدان الهوية في نظره لا يمكن تعويضها، فذلك يعنى عدم تعرف الروح على صاحبها، ويؤكد ضياع فرصته في جنة الأبرار .
2-معاينة طرق التحنيط الثلاثة واختيار إحداها، ودفع التكاليف، حيث تنوعت طرق التحنيط طبقا لاختلاف الطبقات الاجتماعية ومدى الثراء. فهناك ثلاثة طرق رئيسية يعرضها رئيس المحنطين على أسرة المتوفى في شكل ثلاثة موديلات خشبية، وعليهم اختيار إحداها طبقًا لما يتناسب مع طبقتهم الاجتماعية، وتستغرق المده الزمنيه التى تتم فيها عملية التحنيط ٧٠ يوماً، وعُرف ذلك من خلال نصان في منتصف الأسرة الثامنة عشر، ويرجعان إلى عصري حتشبسوت وتحتمس الثالث وموجودان في مقبرتين بطيبة الغريبة، وكلاهما في نص واحد متشابه: «والسبعون يوماً المخصصة لك اكتملت في مكانك الخاص بتحنيطك»، والمواد الأساسية المستخدمة في التحنيط «النطرون» وهي مادة تتكون من بيكربونات وكربونات الصوديوم، وتوجد في وادي النطرون، وعندما تتبخر البحيرات تتكون طبقة بيضاء من الملح تُسمى “النطرون”، استخدمتها الأسرة الرابعة لتجفيف الماء من الجسم «القار» وهي مادة توضع في جوف جسم الإنسان المحنط لحفظه من التحلل، وُجدت بعد الأسرة الحادية والعشرين. و«المواد الراتنجية» هي من المواد الأساسية في التحنيط، وهي عبارة عن زيت ثخين مأخوذ من عصارة جذع النباتات، ومن أنواعه: الصمغ والمر، ويعتبر البخور والمادة اللاصقه للكتان «شمع النحل» استخدمت هذه المادة في عملية التحنيط لقفل العينيين والأنف والفم ولصق الجرح كمادة أشبه بالعازلة . أما «الكاسيا والقرفة» فهي قشور مجففة من أشجار في الهند والصين، عبارة عن بهارات تستخدم كمواد مجففة. فالحشو مكان الأحشاء لها رائحه طيبة من «النباتات»، مثل استخدام البصل للحفاظ على الجثة من العفن، والتمر لتجفيف جوف الجثة، ويضع بين لفائف الكتان، واستخدام “أنواع الأزهار” لتعطير الجثة، ومن المواد النباتية “نشارة الخشب” لحشو جوف الجسم «العقاقير ذات الروائح الزكية»: وهي تستخدم كمواد معطرة ومنها زيت الزيتون واللبان وصمغ الراتنج كالمر. “الملح (كلوريد الصوديوم)” يستخدم كبديل عن النطرون فهو يوجد في النطرون بنسبة 50%. أما شمع النخيل فيستخدم لتغطية الجسم كله من المسامات، وزيت الأرز  لدهان الجسم، والحناء لصبغ الأقدام والأظافر والأيدي والشعر، وحب العرعر لحماية الجثة، وعرق النخيل لغسل تجويد الجسم و الأحشاء، والكتان يُستخدم في لف المومياوات.

 

تبدأ عملية التحنيط بأحد الكهنة الذين يقرأون من بردية يمسكها بيديه ويطلق عليه الكاهن المرتل “غري_حبت”، ويقوم بقراءة إجراءات التحنيط. أما صاحب الدور الرئيسي والمنفذ يرتدي قناع الإله أنوبيس ويحمل لقب “امى_دوات”، أي المشرف على التحنيط، وهو الذي يقوم بتنفيذ العمليات الطبية، وهناك الكهنة المساعدون، ويُطلق عليهم “وتو” أي المُكفنون. يُغسل المتوفى بماء النيل ثم يضعون الميت على لوحة خشبية تُسمى (لوحة التطهير)، ويُنزع عنه ملابسه ثم يُدلك بالزيوت النباتية ثم يشطف بماء النيل، وبعد ذلك يتم استخراج المخ لأنه من الأنسجة التي تتعفن بسرعة، فقد حرص المصريون القدماء على أن يبدأوا باستخراجه أولًا عن طريق الجفت وبكسر عظمة الأنف، وبعد ذلك تُستخرج الأحشاء، حيث وُجد نص مكتوب فيه (إنني لم أقتل أي شخص، ولم أخن الأمانة، ولم أرتكب خطيئة من الخطايا المميتة، ولكن إذا ارتكبت ذنبًا فليس ذنبي، بل هو ذنب هذه الأحشاء)، وكانوا يستخرجون الأحشاء من الجانب الأيسر للبطن، ويستخرجون جميع الأحشاء ما عدا القلب حيث يُترك للمحاسبة في محكمة أوزير، وكان يوضع القلب في كفة وماعت (ريشه العدالة) في كفة أخرى فإذا ثقُل القلب يكون مذنبًا ويلتهمه “عمعمت”، وأحيانًا كانوا يضعون على قلبه الجعر.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق